مثاليه
Idealism - Idéalisme
المثالية
المثالية idealism مذهب فلسفي يشمل جانباً كبيراً من المذاهب الميتافيزيقية، ويبحث في نظريات المعرفة والوجود والكون، وهو اتجاه فكري مناهض للمادية [ر] materialism، يقوم على تمجيد العقل والروح معاً، ويقلل من دور المادة. فيرى أن العقل هو أساس المعرفة وأنه هو الحقيقة النهائية، أوالحقيقة المطلقة. ويرد الواقع والوجود إلى أفكار؛ ليقرر أن المعرفة تنحصر في الفكر دون الواقع، في العقل لا في المادة، ويعمل وفق مثل أعلى idea أو فكرة نموذجية في الذهن. وتقترب المثالية كثيراً من مباحث الفلسفة الثلاثة الرئيسة: الحق والخير والجمال، لتولّد مثالية عملية في الدين والأخلاق والجمال.
والمثالية اسم مشتقٌ من المثال، ويعني في الإغريقية الصورة أو الفكرة. وقد ولدت على يد أفلاطون[ر] Platoحين قدم نظريته في المثل أو الأفكار ideas أو الصور forms كحل لمشكلة الكليات universals، ومفادها أن الجزئيات الحسية ليس لها وجود حقيقي، وإنما صورها النوعية أي نماذجها أو المثل ideas هي ذات الوجود الحقيقي، فالمحسوسات ماهي إلا ظلال زائفة يقابلها حقائق خالدة وثابتة في عالم الأفكار، هي المثل: مبادئ المعرفة والوجود معاً.
وظهرت المثالية في فلسفة ديكارت[ر] Descartes في برهانه الأنطولوجي «الكوجيتو»: أنا أفكر إذن أنا موجود، مقرراً أن وجود الأشياء في المكان خارج العقل وجود مشكوك فيه، فكانت مثالية إشكالية تشكّك في كافة أشكال الوجود عدا وجود الذات.
وبرز ليبنتز [ر] Leibniz؛ ليستخدم المثالية بمعنى اللامادية في نظرية «المونادات» monad؛ الجواهر الفردية الحقيقية ومبادئ الحقيقة والكون.
وأخذت المثالية تزداد انتشاراً منذ ذلك الحين، حتى أصبح الجزء الخاص بمبحث المعرفة في فلسفتي بركلي [ر] Berkeley وهيوم [ر] Hume التعبير التقليدي لها. وهنا يمكن التمييز بين نوعين من المثالية؛ المثالية الذاتية subjective idealism، والمثالية الموضوعية objective idealism. ومفاد الأولى أن العقل لا يدرك الأشياء في ذاتها، بل امتثالات أو تصورات أو ظواهر عن هذه الأشياء؛ إذ ترفض منح العالم الموضوعي أي وجود مستقل عن نشاط الإنسان الإدراكي وعن وسائله في الإدراك، وتنتهي هذه المثالية المتزمتة إلى نزعة الأنانة، وكان من أبرز دعاتها كَانْت [ر] Kant وبركلي وهيوم وفيخته[ر] Fichte وماخ [ر] Mach. والصور الحديثة لهذه المثالية هي الذرائعية [ر] instrumentalism والوضعية الجديدة neo-positivism والوجودية [ر] existentialism والظواهرية [ر] phenomenology. أما المثالية الموضوعية فقد منحت أولوية الوجود الحقيقي للكليات أو الأفكار العقلية على الجزئيات الحسية، وأقرّت أن المصدر الأول للوجود ليس العقل الإنساني الشخصي، بل هو وعي موضوعي من عالم آخر، إنه «الروح المطلق» أو «العقل الكلي». وكان أفلاطون من أبرز دعاتها في العصر القديم، وهيغل [ر] Hegel من أهم ممثليها في القرن التاسع عشر. وتتمثل هذه المثالية في الفلسفة المعاصرة في التومائية الجديدة neo-Thomism والشخصانية [ر] personalism والحيوية [ر] vitalism. وهذه المثالية غالباً ما تمتزج مع اللاهوت [ر] theology، وتقيم أساساً فلسفياً خاصاً للدين.
ويعدّ بركلي المؤسس الحقيقي للمثالية الذاتية، وقد كان لأفكاره تأثير كبير على المفكّرين والفلاسفة من بعده، فقد استطاع خلق «ميتافيزيقا» مثالية ترد الوجود إلى الفكر، فتجعل الإدراك هو الوجود، وهي تقوم على أساس التمييز بين ما هو «مدرَك» وما هو «مدرِك»، فلا يوجد نوعان من الموجودات: روحية ومادية، بل يوجد فقط عقول؛ أي كائنات مفكرة، تقوم طبيعتها في الامتثال والإرادة، فموضوعات الامتثال وأفعال الإرادة ـــ وهي الأفكار ـــ لا قوام لها خارج العقول، بل هي نتاج نشاطها.
ودعا كَانْت إلى مثالية من نوع خاص، فخالف بركلي، وربط وجود الشيء في ذاته أو المعقول أو «النومن» nomen بالفكرة المثالية عن أشكال قبلية للوعي؛ هي المثالية المتعالية transcendental idealism (مصطلح استخدم في الفلسفة المدرسية للدلالة على المفاهيم التي ترتفع على جميع المقولات الخاصة بالتفكير)، تقول بأن المكان والزمان والمقولات إطارات قبلية موجودة في العقل، وبفضلها يدرك العقل مضمون التجربة؛ لأن المعرفة عنده حسية عقلية على السواء، فهي حصيلة مشتركة للإدراك الحسي وللتفكير، أما موضوعات «الميتافيزيقا»، أو مالا يمكن إدراكه حسياً؛ فلا يمكن الادعاء بمعرفته إلا عن طريق التخمينات والظنون؛ «لأن معرفتنا مقتصرة على الظواهر، ولا نستطيع معرفة الأشياء في ذاتها»، وبهذا ينكر كَانْت إمكانية معرفة العالم الغيبي أو الماورائي عن طريق الفكر البشري.
وساد هذا الاتجاه المثالي الذاتي في فلسفة فيخته، فوجد أنه ليس فقط صور العيان (الزمان والمكان)، ومقولات الذهن هي من خلق العقل، بل إن الموضوعية نفسها هي من إنتاج العقل؛ لذلك أضاف إلى مثالية كَانْت الشعور consciousness، فقال بالأنا المطلق absolute ego المستقل بذاته أو الأنا اللامتناهي infinite.
ثم ظهر شيلنغ [ر] Schelling، تلميذ كَانْت وفيخته في آن واحد، وأراد التخفيف من الذاتية المفرطة عند فيخته، فقال بالروح spirit-geist، وزعم أن هناك انصهاراً مطلقاً أو وحدة كاملة بين الإنسان والطبيعة؛ أو بين الروح والمادة، ولا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى؛ فالروح تغاير نفسها في الطبيعة، ثم تعود إلى مقرها في الإنسان، وبهذا تصبح قادرة على تعرف نفسها في الطبيعة أيضاً. اعتمد شيلنغ على اسبينوزا [ر] Spinoza في بلورة فلسفته، فكان من القائلين بوحدة الوجود: أي وحدة الطبيعة كّلاً بما فيها الإنسان، فلا يوجد شيء خارج الطبيعة؛ والطبيعة هي كلية ما هو موجود. وقد شرح شيلنغ تصوراته هذه في كتابه: «نظام المثالية» (1780).
وتكمن عبقرية هيغل ـ رائد المثالية المطلقة absolute idealism ومؤسس المثالية الجدلية dialectical الألمانية في القرن التاسع عشر ـ في تجاوز العقلانية التجريدية على منوال كَانْت، والحدس الرومانسي على نمط شيلنغ؛ والتوصل إلى تركيبة موفقة بينهما عن طريق منهج الجدل [ر] الذي يوحد بين الاضداد، فقد توصل إلى بلورة فلسفة جديدة تعد بمنزلة ختام لكل فلسفة سابقة عليه، فأقام مثالية تعدّ الوعي سابقاً على المادة.
وجد هيغل أن الفكر هو المبدأ الحقيقي الكلي للطبيعة وللروح، ويقصد بالروح العقل أو الفكر البشري، فالكون يدل على جملة الصفات المنطقية المعقولة التي يتحلى بها كل واقع حقيقي، والطبيعة هي تجلي الواقع في الكائنات العضوية، والروح هي الاتجاه الباطني لنشاط هذا الواقع. إن جوهر الحقيقة روحي، والروح لا تستطيع أن تدرك نفسها إلا في علاقتها بعنصر مادي موضوعي، وهذا هو علة وجود المادة أو كما قال هيغل: «المادة مظهر تتبدَّى به الروح». ويقر هيغل بالهوية بين الفكر والوجود، وعنده أن ما هو موجود فإنه لا يوجد إلا بوصفه فكراً؛ ولهذا فإن المنطق الذي هو علم الفكر هو في الوقت نفسه علم الوجود.
ويربط هيغل المثالية بعلم الاجتماع، فيرى أن الفكر الذي لا يبحث إلا فيما ينبغي أن يكون ليس بالفكر الفلسفي الصحيح، وذلك أن أخلاق الواجب بهذا الاعتبار لا تؤلف سوى وجهة نظر دنيا يجب تجاوزها، إنها تتناول كلية الفرد المجردة، وتسعى عبثاً إلى تصور إمكان تحققها، فلابد من تجاوز تلك الكلية (المجردة) والوصول إلى كلية (مشخصة) هي كلية (اجتماعية) تشمل الأسرة والجماعة والدولة، أي تشمل المجتمع الراهن الذي ينتمي الفاعل الأخلاقي إليه، ويعيش ضمنه، ويكون جزءاً من أجزائه.
وقد بلغ العقل الغربي ذروته ـ وربما معصوميته ـ على يد مفكري الفلسفة المثالية الألمانية وخاصة كَانْت وفيخته وشيلنغ وهيغل، وحل محل العقل اللاهوتي الغيبي المسيحي بصفته المرشد الأعلى للبشرية، ولذلك قال بعضهم إن الفلسفة المثالية الألمانية ما هي إلا علمنة للإصلاح اللوثري: أي للدين المسيحي في نهاية المطاف، وعلى هذا النحو حلت الفلسفة محل الدين، وسيطرت على الفكر الأوربي، كما امتد تأثيرها حتى القرن العشرين.
ففي إنكلترا كان يمثل المثالية الألمانية فرنسيس هربرت برادلي (Bradley (1846-1924 الذي صرح بأنه ينبغي علينا افتراض وجود مطلق يجاوز نطاق الفكر، وتوماس هيل غرين (Green (1836- 1924، الذي اهتم خصوصاً بالربط بين المثالية والنصرانية [ر] وبين المثالية والأفكار السياسية الحرة، وبرنارد بوزانكيت (Bosanquet (1848-1923، وماكـتغارت [ر] McTaggart. وفي إيـطاليا اعتنـق المثـالية الهيغلية بنديتو كروتشه [ر] Croce، وجـيوفاني جنتيله ( Giovanni Gentile (1875-1944. وفي فرنسـا كان من أنصار المثـالية شـارل رنوفييه (Renouvier (1815-1903، وجول لاشـلييه (Lachelier (1832- 1918، وأوكتاف هاملان (1907-1856) Octave Hamelin.
عدنان شكري يوسف
Idealism - Idéalisme
المثالية
المثالية idealism مذهب فلسفي يشمل جانباً كبيراً من المذاهب الميتافيزيقية، ويبحث في نظريات المعرفة والوجود والكون، وهو اتجاه فكري مناهض للمادية [ر] materialism، يقوم على تمجيد العقل والروح معاً، ويقلل من دور المادة. فيرى أن العقل هو أساس المعرفة وأنه هو الحقيقة النهائية، أوالحقيقة المطلقة. ويرد الواقع والوجود إلى أفكار؛ ليقرر أن المعرفة تنحصر في الفكر دون الواقع، في العقل لا في المادة، ويعمل وفق مثل أعلى idea أو فكرة نموذجية في الذهن. وتقترب المثالية كثيراً من مباحث الفلسفة الثلاثة الرئيسة: الحق والخير والجمال، لتولّد مثالية عملية في الدين والأخلاق والجمال.
والمثالية اسم مشتقٌ من المثال، ويعني في الإغريقية الصورة أو الفكرة. وقد ولدت على يد أفلاطون[ر] Platoحين قدم نظريته في المثل أو الأفكار ideas أو الصور forms كحل لمشكلة الكليات universals، ومفادها أن الجزئيات الحسية ليس لها وجود حقيقي، وإنما صورها النوعية أي نماذجها أو المثل ideas هي ذات الوجود الحقيقي، فالمحسوسات ماهي إلا ظلال زائفة يقابلها حقائق خالدة وثابتة في عالم الأفكار، هي المثل: مبادئ المعرفة والوجود معاً.
وظهرت المثالية في فلسفة ديكارت[ر] Descartes في برهانه الأنطولوجي «الكوجيتو»: أنا أفكر إذن أنا موجود، مقرراً أن وجود الأشياء في المكان خارج العقل وجود مشكوك فيه، فكانت مثالية إشكالية تشكّك في كافة أشكال الوجود عدا وجود الذات.
وبرز ليبنتز [ر] Leibniz؛ ليستخدم المثالية بمعنى اللامادية في نظرية «المونادات» monad؛ الجواهر الفردية الحقيقية ومبادئ الحقيقة والكون.
وأخذت المثالية تزداد انتشاراً منذ ذلك الحين، حتى أصبح الجزء الخاص بمبحث المعرفة في فلسفتي بركلي [ر] Berkeley وهيوم [ر] Hume التعبير التقليدي لها. وهنا يمكن التمييز بين نوعين من المثالية؛ المثالية الذاتية subjective idealism، والمثالية الموضوعية objective idealism. ومفاد الأولى أن العقل لا يدرك الأشياء في ذاتها، بل امتثالات أو تصورات أو ظواهر عن هذه الأشياء؛ إذ ترفض منح العالم الموضوعي أي وجود مستقل عن نشاط الإنسان الإدراكي وعن وسائله في الإدراك، وتنتهي هذه المثالية المتزمتة إلى نزعة الأنانة، وكان من أبرز دعاتها كَانْت [ر] Kant وبركلي وهيوم وفيخته[ر] Fichte وماخ [ر] Mach. والصور الحديثة لهذه المثالية هي الذرائعية [ر] instrumentalism والوضعية الجديدة neo-positivism والوجودية [ر] existentialism والظواهرية [ر] phenomenology. أما المثالية الموضوعية فقد منحت أولوية الوجود الحقيقي للكليات أو الأفكار العقلية على الجزئيات الحسية، وأقرّت أن المصدر الأول للوجود ليس العقل الإنساني الشخصي، بل هو وعي موضوعي من عالم آخر، إنه «الروح المطلق» أو «العقل الكلي». وكان أفلاطون من أبرز دعاتها في العصر القديم، وهيغل [ر] Hegel من أهم ممثليها في القرن التاسع عشر. وتتمثل هذه المثالية في الفلسفة المعاصرة في التومائية الجديدة neo-Thomism والشخصانية [ر] personalism والحيوية [ر] vitalism. وهذه المثالية غالباً ما تمتزج مع اللاهوت [ر] theology، وتقيم أساساً فلسفياً خاصاً للدين.
ويعدّ بركلي المؤسس الحقيقي للمثالية الذاتية، وقد كان لأفكاره تأثير كبير على المفكّرين والفلاسفة من بعده، فقد استطاع خلق «ميتافيزيقا» مثالية ترد الوجود إلى الفكر، فتجعل الإدراك هو الوجود، وهي تقوم على أساس التمييز بين ما هو «مدرَك» وما هو «مدرِك»، فلا يوجد نوعان من الموجودات: روحية ومادية، بل يوجد فقط عقول؛ أي كائنات مفكرة، تقوم طبيعتها في الامتثال والإرادة، فموضوعات الامتثال وأفعال الإرادة ـــ وهي الأفكار ـــ لا قوام لها خارج العقول، بل هي نتاج نشاطها.
ودعا كَانْت إلى مثالية من نوع خاص، فخالف بركلي، وربط وجود الشيء في ذاته أو المعقول أو «النومن» nomen بالفكرة المثالية عن أشكال قبلية للوعي؛ هي المثالية المتعالية transcendental idealism (مصطلح استخدم في الفلسفة المدرسية للدلالة على المفاهيم التي ترتفع على جميع المقولات الخاصة بالتفكير)، تقول بأن المكان والزمان والمقولات إطارات قبلية موجودة في العقل، وبفضلها يدرك العقل مضمون التجربة؛ لأن المعرفة عنده حسية عقلية على السواء، فهي حصيلة مشتركة للإدراك الحسي وللتفكير، أما موضوعات «الميتافيزيقا»، أو مالا يمكن إدراكه حسياً؛ فلا يمكن الادعاء بمعرفته إلا عن طريق التخمينات والظنون؛ «لأن معرفتنا مقتصرة على الظواهر، ولا نستطيع معرفة الأشياء في ذاتها»، وبهذا ينكر كَانْت إمكانية معرفة العالم الغيبي أو الماورائي عن طريق الفكر البشري.
وساد هذا الاتجاه المثالي الذاتي في فلسفة فيخته، فوجد أنه ليس فقط صور العيان (الزمان والمكان)، ومقولات الذهن هي من خلق العقل، بل إن الموضوعية نفسها هي من إنتاج العقل؛ لذلك أضاف إلى مثالية كَانْت الشعور consciousness، فقال بالأنا المطلق absolute ego المستقل بذاته أو الأنا اللامتناهي infinite.
ثم ظهر شيلنغ [ر] Schelling، تلميذ كَانْت وفيخته في آن واحد، وأراد التخفيف من الذاتية المفرطة عند فيخته، فقال بالروح spirit-geist، وزعم أن هناك انصهاراً مطلقاً أو وحدة كاملة بين الإنسان والطبيعة؛ أو بين الروح والمادة، ولا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى؛ فالروح تغاير نفسها في الطبيعة، ثم تعود إلى مقرها في الإنسان، وبهذا تصبح قادرة على تعرف نفسها في الطبيعة أيضاً. اعتمد شيلنغ على اسبينوزا [ر] Spinoza في بلورة فلسفته، فكان من القائلين بوحدة الوجود: أي وحدة الطبيعة كّلاً بما فيها الإنسان، فلا يوجد شيء خارج الطبيعة؛ والطبيعة هي كلية ما هو موجود. وقد شرح شيلنغ تصوراته هذه في كتابه: «نظام المثالية» (1780).
وتكمن عبقرية هيغل ـ رائد المثالية المطلقة absolute idealism ومؤسس المثالية الجدلية dialectical الألمانية في القرن التاسع عشر ـ في تجاوز العقلانية التجريدية على منوال كَانْت، والحدس الرومانسي على نمط شيلنغ؛ والتوصل إلى تركيبة موفقة بينهما عن طريق منهج الجدل [ر] الذي يوحد بين الاضداد، فقد توصل إلى بلورة فلسفة جديدة تعد بمنزلة ختام لكل فلسفة سابقة عليه، فأقام مثالية تعدّ الوعي سابقاً على المادة.
وجد هيغل أن الفكر هو المبدأ الحقيقي الكلي للطبيعة وللروح، ويقصد بالروح العقل أو الفكر البشري، فالكون يدل على جملة الصفات المنطقية المعقولة التي يتحلى بها كل واقع حقيقي، والطبيعة هي تجلي الواقع في الكائنات العضوية، والروح هي الاتجاه الباطني لنشاط هذا الواقع. إن جوهر الحقيقة روحي، والروح لا تستطيع أن تدرك نفسها إلا في علاقتها بعنصر مادي موضوعي، وهذا هو علة وجود المادة أو كما قال هيغل: «المادة مظهر تتبدَّى به الروح». ويقر هيغل بالهوية بين الفكر والوجود، وعنده أن ما هو موجود فإنه لا يوجد إلا بوصفه فكراً؛ ولهذا فإن المنطق الذي هو علم الفكر هو في الوقت نفسه علم الوجود.
ويربط هيغل المثالية بعلم الاجتماع، فيرى أن الفكر الذي لا يبحث إلا فيما ينبغي أن يكون ليس بالفكر الفلسفي الصحيح، وذلك أن أخلاق الواجب بهذا الاعتبار لا تؤلف سوى وجهة نظر دنيا يجب تجاوزها، إنها تتناول كلية الفرد المجردة، وتسعى عبثاً إلى تصور إمكان تحققها، فلابد من تجاوز تلك الكلية (المجردة) والوصول إلى كلية (مشخصة) هي كلية (اجتماعية) تشمل الأسرة والجماعة والدولة، أي تشمل المجتمع الراهن الذي ينتمي الفاعل الأخلاقي إليه، ويعيش ضمنه، ويكون جزءاً من أجزائه.
وقد بلغ العقل الغربي ذروته ـ وربما معصوميته ـ على يد مفكري الفلسفة المثالية الألمانية وخاصة كَانْت وفيخته وشيلنغ وهيغل، وحل محل العقل اللاهوتي الغيبي المسيحي بصفته المرشد الأعلى للبشرية، ولذلك قال بعضهم إن الفلسفة المثالية الألمانية ما هي إلا علمنة للإصلاح اللوثري: أي للدين المسيحي في نهاية المطاف، وعلى هذا النحو حلت الفلسفة محل الدين، وسيطرت على الفكر الأوربي، كما امتد تأثيرها حتى القرن العشرين.
ففي إنكلترا كان يمثل المثالية الألمانية فرنسيس هربرت برادلي (Bradley (1846-1924 الذي صرح بأنه ينبغي علينا افتراض وجود مطلق يجاوز نطاق الفكر، وتوماس هيل غرين (Green (1836- 1924، الذي اهتم خصوصاً بالربط بين المثالية والنصرانية [ر] وبين المثالية والأفكار السياسية الحرة، وبرنارد بوزانكيت (Bosanquet (1848-1923، وماكـتغارت [ر] McTaggart. وفي إيـطاليا اعتنـق المثـالية الهيغلية بنديتو كروتشه [ر] Croce، وجـيوفاني جنتيله ( Giovanni Gentile (1875-1944. وفي فرنسـا كان من أنصار المثـالية شـارل رنوفييه (Renouvier (1815-1903، وجول لاشـلييه (Lachelier (1832- 1918، وأوكتاف هاملان (1907-1856) Octave Hamelin.
عدنان شكري يوسف