سترافنسكي (إيغور ـ)
(1882 ـ 1971)
إيغور سترافنسكي Igor Stravinsky، مؤلف موسيقي وعازف بيانو وقائد أوركسترا روسي، ولد في أورانينبوم (ضواحي سان بطرسبرغ)، وتوفي في نيويورك. وهو من أهم الموسيقيين الروس في القرن العشرين. والده مغني الأوبرا الشهير فيودور سترافنسكي. نشأ إيغور في مدينة سان بطرسبرغ الغنية بالفعاليات الثقافية، ولم يبد في صغره أياً من مظاهر النبوغ الموسيقي. تابع دروس البيانو بإشراف كاسباروفا (طالبة عازف البيانو المبدع روبنشتاينA.Rubinstein). ارتاد سترافنسكي الأوساط الموسيقية في أثناء دراسته الحقوق. وتعرّف زميل الدراسة فلاديمر الذي قدمه لوالده الموسيقي الشهير ريمسكي ـ كورساكوف [ر]N.Rimsky-Korsakov، عام 1902، كمؤلف موسيقى هاوٍ. وحين اطلع كورساكوف على تجارب سترافنسكي الموسيقية أقنعه بعدم جدوى الالتحاق بالكونسرفاتوار (المعهد الموسيقي)، بل متابعة بعض الدروس بإشراف أحد طلابه «كالفاتي»، ثم وافق كورساكوف فيما بعد على إعطائه بعض الدروس في مادتي التأليف والتوزيع الأوركسترالي.
في عام 1905، تخلى سترافنسكي عن دراسة الحقوق، وتفرغ لتأليف موسيقى ذات قيمة أكاديمية كالسمفونية[ر] الأولى، ومجموعة أغاني بمرافقة الأوركسترا. ومع تقديم هذه السمفونية، بدأ اسم سترافنسكي بالصعود في الأوساط الموسيقية كأحد طلاب كورساكوف الموهوبين. وبمناسبة زواج ابنة أستاذه، ألف سترافنسكي «ألعاب نارية» Fire works أتبعها بـ «سكيرتسو خيالية» Scherzo fantastique.
أثار تقديم هذه الأعمال انتباه الفنان الكبير سيرج دياغيليف S.Diaghilev، منظم الحفلات الموسيقية، ومؤسس فرقة «الباليه [ر] الروسية»، ودعا سترافنسكي للانضمام كمؤلف رئيس لفرقة الباليه، إلى جانب مصمم الرقصات فوكين [ر] Fokine، ومصممَي الأزياء والديكور بِنوا Benois وباكست Baxt.
بدأ سترافنسكي، عام 1909، بتأليف موسيقى باليه «العصفور الناري»، تلبية لطلب دياغيليف، ليقدمها في موسم الباليه بباريس عام 1910. وحققت الباليه نجاحاً كبيراً جعل اسم سترافنسكي في مقدمة الموسيقيين الروس الطليعيين. وتعددت جولات سترافنسكي الموسيقية بين روسيا وفرنسا وسويسرا. وفي خلال إقامته في كلارنس (سويسرا)، عام 1911، زاره دياغيليف بصحبة راقص الباليه نيجنسكي[ر] Nijinskyواطلعا على مخطط عمل جديد للبيانو والأوركسترا كان قد بدأ سترافنسكي بتأليفه. أدرك دياغيليف الإمكانات الراقصة الكامنة في هذا العمل الموسيقي، فطلب من سترافنسكي تعديله وتحويله إلى باليه يروي قصة الدمية «بتروشكا»، وقام سترافنسكي بالتعديلات اللازمة وقدمت باليه «بتروشكا»، في باريس بنجاح كبير عام 1911.
في أثناء تأليف باليه «العصفور الناري»، تخيل سترافنسكي تأليف باليه تصور بيئة القبائل الروسية ومجتمعها وشعائرها الوثنية في الأزمنة الغابرة، آخذة شكل احتفال هائل يضَّحي في أثنائه حكماء وشيوخ القبيلة بالفتاة المختارة إرضاءً لآلهة الربيع. إلا أن الفكرة أرجئت لانشغال سترافنسكي في تأليف «بتروشكا». لكنه حين عاد إلى روسيا، وعلى الرغم من جولاته الموسيقية الكثيرة في عام 1912، تمكن من إنهاء تأليف باليه «تقديس الربيع» وتقديمها في باريس عام 1913، في أمسية موسيقية اقترنت بصخب كبير.
عاد سترافنسكي إلى روسيا، قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، ثم سافر إلى سويسرا حاملاً أفكاراً وخططاً جديدة لتأليف أعمال موسيقية ذات أصالة روسية. كانت إقامته في سويسرا مؤقتة وعابرة بهدف الاستجمام والتفرغ للتأليف، وتجنب الابتعاد عن باريس. إلا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى أرغمه على البقاء في سويسرا كلاجئ، فتضاءلت موارده المادية الواردة من روسيا، وفقد حصته من أرباح موسيقاه التي طبعت في دار نشر ألمانية، كما شلّت فعاليات فرقة دياغيليف، الأمر الذي زاد من ضائقته المالية. ومع قيام الثورة البلشفية عام 1917، فقد سترافنسكي جميع ممتلكاته في روسيا، وانقطعت صلاته نهائياً بوطنه الأم.
أمضى سترافنسكي سنواته الصعبة في سويسرا محاطاً بأصدقاء متميزين، وقام بتأليف أعمال لا تتطلب إمكانات أوركسترالية كبيرة معتمداً التراث الشعبي (الفولكلور) الروسي مصدراً أساسياً للإلهام. فقدم أعمالاً رائعة كالمسرحية الغنائية لمسرح جوّال «قصة جندي»، وأوبرا [ر] الحجرة «الثعلب»، والمشاهد الغنائية الراقصة «العرس» وأغاني «تهويدة القطة».
كان نجاح باليه «سيدات المزاج الحسن» للمؤلف تومازيني V.Tommasini على ألحان لسكارلاتي [ر] ومن تصميم دياغيليف قد دفعه لإعادة التجربة مع سترافنسكي باقتباس بعض ألحان برغوليزي(1710ـ1736) G.Pergolesi. وقد تكيف سترافنسكي مع هذه الفكرة وأنجز الباليه الغنائية «بولتشينلا» Pulcinella بأسلوب الكلاسيكية الجديدة neoclassicism.
ومع عودة السلام إلى أرجاء أوربا، قرر سترافنسكي الانتقال إلى فرنسا، وكان لا بد له من إيجاد مصدر دخل يغطي به مصاريف عائلته، فعمد إلى تقديم حفلات موسيقية يعزف ويقود فيها مؤلفاته الموسيقية، وقد ألف في أثنائها قطعاً للبيانو مثل ثلاث حركات من باليه بتروشكا (1921)، و«حوارية [ر] (كونشرتو) للبيانو وآلات نفخ» (1924)، و«نزوة» (كابريتشو) Capriccioللبيانو والأوركسترا (1928)، و«حوارية» لآلتي بيانو دون مرافقة (1931). وقام بجولة حفلات موسيقية في بعض البلدان الأوربية عام 1924 أعقبها، في العام التالي، بجولة في أمريكا.
في خلال العام 1927، أنهى سترافنسكي تأليف أوبراـ أوراتوريو OperaـOratorio «أوديب ملكاً» بالتعاون مع الأديب جان كوكتو. وفي العام التالي، قدّم باليه «أبولو« Apollon من تصميم بالانشين(1983ـ1904) Balanchine. وفي العام ذاته، قدم باليه أخرى «قبلة الساحرة» على ألحان لتشايكوفسكي [ر] P.I.Tchaikovsky.
وبمناسبة العيد الخمسين لتأسيس فرقة بوسطن السمفونية (الأمريكية) كُلِّف سترافنسكي بتأليف سمفونية «المزامير» للكورال (الجوقة الغنائية) والأوركسترا قدمت عام 1930. وفي العام التالي، تعرف سترافنسكي عازف الكمان دوشكين، فراودته فكرة تأليف «حوارية» للكمان، قدمت بنجاح في برلين. وأنهى كتابة موسيقى ميلودراما «برسيفون» (1933) Perséphone من نصوص لـ «جيد» A.Gide. وألف باليه «أوراق اللعب» (1937) لموضوع مستوحى من لعبة القمار (بوكر) وقدمت الباليه في متروبوليتان نيويورك. وفي عام 1938، ألف حواريةDumbarton Oaks لآلات نفخ خشبية. وفي العام ذاته، فقد سترافنسكي ابنته المصابة بالسل، وتوفيت زوجته في العام التالي، تلتها والدته. ومع تلبد غيوم الحرب العالمية الثانية في سماء أوربا، لبّى سترافنسكي دعوة جامعة هارفارد الأمريكية لإلقاء سلسلة من المحاضرات، ولم يكن يعلم أنه سيمضي بقية حياته في أمريكا.
واصل سترافنسكي، إلى جانب نشاطه بجامعة هارفارد، تقديم أعماله عزفاً وقيادة في حفلات موسيقية في مختلف الولايات الأمريكية. واستجاب لطلبات تأليف أعمال موسيقية كثيرة تلقاها من أوركسترات شيكاغو وبوسطن ونيويورك. فألف السمفونية من «مقام دو» (1940)، و«السمفونية ذات الثلاث حركات» (1945)، و«حوارية الوتريات»، وباليه «أورفيوس»، (1947).
في إثر زيارته لمعرض لوحات تلخص سيرة إنسان فاجر ومصيره، قام بتأليف أوبرا «سيرة فاسق»، The Rake’s Progress قدمت بنجاح كبير في البندقية (إيطاليا) عام 1951. ويعد النقاد هذه الأوبرا قمة مرحلته النيوكلاسيكية.
تعرف سترافنسكي، عام 1948، الموسيقي الأمريكي روبرت كرافت R.Craftالمعروف باهتمامه بـ «الموسيقى النسقية»musique sérielle وبموسيقى سترافنسكي. وقد أقنعه كرافت بخوض تجربة التأليف الموسيقي وفق معايير «الموسيقى النسقية». فكتب سترافنسكي، في هذا المجال، ثلاثة أغانٍ من قصائد شكسبير (1953)، و«سباعية» (1953)، و«التراتيل المقدسة» (1956) Canticum Sacrum، وباليه «أغون» (1957) Agon، و«حركات» للبيانو والأوركسترا (1959).
أمضى سترافنسكي الأعوام (1958ـ1968) في جولات موسيقية برفقة روبرت كرافت، أهمها تلك التي زار فيها وطنه الأم روسيا عام 1962. وظل على حيويته المألوفة حتى آخر حياته حيث دفن، بناء على وصيته، في البندقية قرب أعز أصدقائه دياغيليف.
أعماله
يعد سترافنسكي، إلى جانب ديبوسي[ر]A.C.Debussy، وشونبرغ [ر] A.Schoenberg، أحد أهم المشاركين في تحديث الرؤيا الجمالية، وتجديد تقانات الفنون الموسيقية في القرن العشرين. وهو باحث عبقري متعدد الاهتمامات، تميز من معاصريه برغبته الجامحة في التجديد المستمر.
ويتفق النقاد والمؤرخون على تمييز ثلاث مراحل في نتاج سترافنسكي:
ـ المرحلة الروسية: ضمت أعمالاً ذات صلة وثيقة بالتراث الثقافي الروسي أهمها «العصفور الناري»، و«بتروشكا»، و«تتويج الربيع»، و«الثعلب»، و«العرس»، و«أوبرا العندليب»، و«قصة جندي». وتلحق بهذه المرحلة الفترة المعاصرة للحرب العالمية الأولى التي أمضاها سترافنسكي في سويسرا ألف فيها أعمالاً متأثرة بموسيقى الجاز.
ـ المرحلة النيوكلاسيكية: وهي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى التي تميزت برفض الرموز الجمالية المترفة لحقبة ما قبل الحرب، والتخلي عن التفاصيل الثانوية، إذ باتت الأفكار الموسيقية في غاية البساطة لتغدو في متناول الأوركسترات الصغيرة. كما تحولت هذه المرحلة إلى كلاسيكية جديدة أوقعت الجمهور والنقاد في حيرة وضياع، إذ رأى بعضهم في نيوكلاسيكية سترافنسكي حنيناً نحو الماضي، وميلاً غريزياً لإعادة تأليف موسيقى بعض المؤلفين مثل برغوليزي، وتشايكوفسكي. فقد امتاز سترافنسكي بقدرة خارقة على تحويل النصوص والأشكال الموسيقية القديمة إلى ألوان ذات حداثة مستمرة، وذلك بإعادة شحن أشكالها الماضية بأفكار مبتكرة، وتأليف أعمال جديدة بأساليب تجمع بين موسيقى سابقيه وأسلوبه الشخصي.
ففي عمله «الثُّمانية» عودة إلى موسيقى الحجرة لعصر الباروك. وفي سوناتا [ر] البيانو (1924) تذكير بجهابذة الكلافسان [ر. البيانو] الفرنسيين. وفي باليه «أبولو»حنين لعصر النهضة. وفي «القداس» (1948) إيحاء لأسلوب الموسيقي ماشو(1300ـ1377) G.Machaut. وتبلغ هذه المرحلة ذروتها بتأليف «سيرة فاسق».
ـ المرحلة الموسيقية النسقية: أظهر سترافنسكي طوال سيرته الفنية اهتماماً وتقديراً بالغين لمؤلفات شونبرغ وطلابه مثل بيرغ [ر] A.Berg، وفيبرن[ر] A.Webern. وبدأ بتقبل أسلوب «اللامقامية» atonality في إثر استماعه رباعية [ر] وترية من تأليف فيبرن. فقد وجد سترافنسكي في مؤلفات هذا الموسيقي بساطة فنية مثالية تتوافق مع طموحاته. فبدأ بتأليف الأعمال متبنياً الأسلوب النسقي مثل «السباعية»، في حين بلغ النضج عنده في هذا الأسلوب الجديد بتأليف باليه «أغون»، و«حركات» للبيانو والأوركسترا (1959)، و«تراتيل جنائزية» (1966).
تمتع سترافنسكي بقدرة كبيرة على التضاد المتجدد في أساليب موسيقاه. فقد تنقل من الأجواء السحرية لـ «العصفور الناري»، إلى البساطة البالغة والواقعية الشعبية في «بتروشكا»، ثم العودة إلى رؤى هذيانية لفوضى ما قبل التاريخ في «تتويج الربيع»، ومن مشاهدة الألعاب المضحكة في «الثعلب»، إلى الوقار عند استعراض مسرح جوال في «قصة الجندي»، ومن مغامرات «بولتشينيلا» في نابولي، إلى شاعرية تشايكوفسكي في «قبلة الساحرة»، وإلى إعادة إحياء رقصات من القرن السابع عشر وفق المنظومة النسقية في «أغون». وخير ما يختزل هذه التحولات، مقولة الباحث الفرنسي فويرموز (1878ـ1960)E.Vuillermoz : «لم يحرز سترافنسكي النصر على الساحة نفسها مرتين».
واهي سفريان
(1882 ـ 1971)
إيغور سترافنسكي Igor Stravinsky، مؤلف موسيقي وعازف بيانو وقائد أوركسترا روسي، ولد في أورانينبوم (ضواحي سان بطرسبرغ)، وتوفي في نيويورك. وهو من أهم الموسيقيين الروس في القرن العشرين. والده مغني الأوبرا الشهير فيودور سترافنسكي. نشأ إيغور في مدينة سان بطرسبرغ الغنية بالفعاليات الثقافية، ولم يبد في صغره أياً من مظاهر النبوغ الموسيقي. تابع دروس البيانو بإشراف كاسباروفا (طالبة عازف البيانو المبدع روبنشتاينA.Rubinstein). ارتاد سترافنسكي الأوساط الموسيقية في أثناء دراسته الحقوق. وتعرّف زميل الدراسة فلاديمر الذي قدمه لوالده الموسيقي الشهير ريمسكي ـ كورساكوف [ر]N.Rimsky-Korsakov، عام 1902، كمؤلف موسيقى هاوٍ. وحين اطلع كورساكوف على تجارب سترافنسكي الموسيقية أقنعه بعدم جدوى الالتحاق بالكونسرفاتوار (المعهد الموسيقي)، بل متابعة بعض الدروس بإشراف أحد طلابه «كالفاتي»، ثم وافق كورساكوف فيما بعد على إعطائه بعض الدروس في مادتي التأليف والتوزيع الأوركسترالي.
في عام 1905، تخلى سترافنسكي عن دراسة الحقوق، وتفرغ لتأليف موسيقى ذات قيمة أكاديمية كالسمفونية[ر] الأولى، ومجموعة أغاني بمرافقة الأوركسترا. ومع تقديم هذه السمفونية، بدأ اسم سترافنسكي بالصعود في الأوساط الموسيقية كأحد طلاب كورساكوف الموهوبين. وبمناسبة زواج ابنة أستاذه، ألف سترافنسكي «ألعاب نارية» Fire works أتبعها بـ «سكيرتسو خيالية» Scherzo fantastique.
أثار تقديم هذه الأعمال انتباه الفنان الكبير سيرج دياغيليف S.Diaghilev، منظم الحفلات الموسيقية، ومؤسس فرقة «الباليه [ر] الروسية»، ودعا سترافنسكي للانضمام كمؤلف رئيس لفرقة الباليه، إلى جانب مصمم الرقصات فوكين [ر] Fokine، ومصممَي الأزياء والديكور بِنوا Benois وباكست Baxt.
بدأ سترافنسكي، عام 1909، بتأليف موسيقى باليه «العصفور الناري»، تلبية لطلب دياغيليف، ليقدمها في موسم الباليه بباريس عام 1910. وحققت الباليه نجاحاً كبيراً جعل اسم سترافنسكي في مقدمة الموسيقيين الروس الطليعيين. وتعددت جولات سترافنسكي الموسيقية بين روسيا وفرنسا وسويسرا. وفي خلال إقامته في كلارنس (سويسرا)، عام 1911، زاره دياغيليف بصحبة راقص الباليه نيجنسكي[ر] Nijinskyواطلعا على مخطط عمل جديد للبيانو والأوركسترا كان قد بدأ سترافنسكي بتأليفه. أدرك دياغيليف الإمكانات الراقصة الكامنة في هذا العمل الموسيقي، فطلب من سترافنسكي تعديله وتحويله إلى باليه يروي قصة الدمية «بتروشكا»، وقام سترافنسكي بالتعديلات اللازمة وقدمت باليه «بتروشكا»، في باريس بنجاح كبير عام 1911.
في أثناء تأليف باليه «العصفور الناري»، تخيل سترافنسكي تأليف باليه تصور بيئة القبائل الروسية ومجتمعها وشعائرها الوثنية في الأزمنة الغابرة، آخذة شكل احتفال هائل يضَّحي في أثنائه حكماء وشيوخ القبيلة بالفتاة المختارة إرضاءً لآلهة الربيع. إلا أن الفكرة أرجئت لانشغال سترافنسكي في تأليف «بتروشكا». لكنه حين عاد إلى روسيا، وعلى الرغم من جولاته الموسيقية الكثيرة في عام 1912، تمكن من إنهاء تأليف باليه «تقديس الربيع» وتقديمها في باريس عام 1913، في أمسية موسيقية اقترنت بصخب كبير.
عاد سترافنسكي إلى روسيا، قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، ثم سافر إلى سويسرا حاملاً أفكاراً وخططاً جديدة لتأليف أعمال موسيقية ذات أصالة روسية. كانت إقامته في سويسرا مؤقتة وعابرة بهدف الاستجمام والتفرغ للتأليف، وتجنب الابتعاد عن باريس. إلا أن اندلاع الحرب العالمية الأولى أرغمه على البقاء في سويسرا كلاجئ، فتضاءلت موارده المادية الواردة من روسيا، وفقد حصته من أرباح موسيقاه التي طبعت في دار نشر ألمانية، كما شلّت فعاليات فرقة دياغيليف، الأمر الذي زاد من ضائقته المالية. ومع قيام الثورة البلشفية عام 1917، فقد سترافنسكي جميع ممتلكاته في روسيا، وانقطعت صلاته نهائياً بوطنه الأم.
أمضى سترافنسكي سنواته الصعبة في سويسرا محاطاً بأصدقاء متميزين، وقام بتأليف أعمال لا تتطلب إمكانات أوركسترالية كبيرة معتمداً التراث الشعبي (الفولكلور) الروسي مصدراً أساسياً للإلهام. فقدم أعمالاً رائعة كالمسرحية الغنائية لمسرح جوّال «قصة جندي»، وأوبرا [ر] الحجرة «الثعلب»، والمشاهد الغنائية الراقصة «العرس» وأغاني «تهويدة القطة».
كان نجاح باليه «سيدات المزاج الحسن» للمؤلف تومازيني V.Tommasini على ألحان لسكارلاتي [ر] ومن تصميم دياغيليف قد دفعه لإعادة التجربة مع سترافنسكي باقتباس بعض ألحان برغوليزي(1710ـ1736) G.Pergolesi. وقد تكيف سترافنسكي مع هذه الفكرة وأنجز الباليه الغنائية «بولتشينلا» Pulcinella بأسلوب الكلاسيكية الجديدة neoclassicism.
ومع عودة السلام إلى أرجاء أوربا، قرر سترافنسكي الانتقال إلى فرنسا، وكان لا بد له من إيجاد مصدر دخل يغطي به مصاريف عائلته، فعمد إلى تقديم حفلات موسيقية يعزف ويقود فيها مؤلفاته الموسيقية، وقد ألف في أثنائها قطعاً للبيانو مثل ثلاث حركات من باليه بتروشكا (1921)، و«حوارية [ر] (كونشرتو) للبيانو وآلات نفخ» (1924)، و«نزوة» (كابريتشو) Capriccioللبيانو والأوركسترا (1928)، و«حوارية» لآلتي بيانو دون مرافقة (1931). وقام بجولة حفلات موسيقية في بعض البلدان الأوربية عام 1924 أعقبها، في العام التالي، بجولة في أمريكا.
في خلال العام 1927، أنهى سترافنسكي تأليف أوبراـ أوراتوريو OperaـOratorio «أوديب ملكاً» بالتعاون مع الأديب جان كوكتو. وفي العام التالي، قدّم باليه «أبولو« Apollon من تصميم بالانشين(1983ـ1904) Balanchine. وفي العام ذاته، قدم باليه أخرى «قبلة الساحرة» على ألحان لتشايكوفسكي [ر] P.I.Tchaikovsky.
وبمناسبة العيد الخمسين لتأسيس فرقة بوسطن السمفونية (الأمريكية) كُلِّف سترافنسكي بتأليف سمفونية «المزامير» للكورال (الجوقة الغنائية) والأوركسترا قدمت عام 1930. وفي العام التالي، تعرف سترافنسكي عازف الكمان دوشكين، فراودته فكرة تأليف «حوارية» للكمان، قدمت بنجاح في برلين. وأنهى كتابة موسيقى ميلودراما «برسيفون» (1933) Perséphone من نصوص لـ «جيد» A.Gide. وألف باليه «أوراق اللعب» (1937) لموضوع مستوحى من لعبة القمار (بوكر) وقدمت الباليه في متروبوليتان نيويورك. وفي عام 1938، ألف حواريةDumbarton Oaks لآلات نفخ خشبية. وفي العام ذاته، فقد سترافنسكي ابنته المصابة بالسل، وتوفيت زوجته في العام التالي، تلتها والدته. ومع تلبد غيوم الحرب العالمية الثانية في سماء أوربا، لبّى سترافنسكي دعوة جامعة هارفارد الأمريكية لإلقاء سلسلة من المحاضرات، ولم يكن يعلم أنه سيمضي بقية حياته في أمريكا.
واصل سترافنسكي، إلى جانب نشاطه بجامعة هارفارد، تقديم أعماله عزفاً وقيادة في حفلات موسيقية في مختلف الولايات الأمريكية. واستجاب لطلبات تأليف أعمال موسيقية كثيرة تلقاها من أوركسترات شيكاغو وبوسطن ونيويورك. فألف السمفونية من «مقام دو» (1940)، و«السمفونية ذات الثلاث حركات» (1945)، و«حوارية الوتريات»، وباليه «أورفيوس»، (1947).
في إثر زيارته لمعرض لوحات تلخص سيرة إنسان فاجر ومصيره، قام بتأليف أوبرا «سيرة فاسق»، The Rake’s Progress قدمت بنجاح كبير في البندقية (إيطاليا) عام 1951. ويعد النقاد هذه الأوبرا قمة مرحلته النيوكلاسيكية.
تعرف سترافنسكي، عام 1948، الموسيقي الأمريكي روبرت كرافت R.Craftالمعروف باهتمامه بـ «الموسيقى النسقية»musique sérielle وبموسيقى سترافنسكي. وقد أقنعه كرافت بخوض تجربة التأليف الموسيقي وفق معايير «الموسيقى النسقية». فكتب سترافنسكي، في هذا المجال، ثلاثة أغانٍ من قصائد شكسبير (1953)، و«سباعية» (1953)، و«التراتيل المقدسة» (1956) Canticum Sacrum، وباليه «أغون» (1957) Agon، و«حركات» للبيانو والأوركسترا (1959).
أمضى سترافنسكي الأعوام (1958ـ1968) في جولات موسيقية برفقة روبرت كرافت، أهمها تلك التي زار فيها وطنه الأم روسيا عام 1962. وظل على حيويته المألوفة حتى آخر حياته حيث دفن، بناء على وصيته، في البندقية قرب أعز أصدقائه دياغيليف.
أعماله
يعد سترافنسكي، إلى جانب ديبوسي[ر]A.C.Debussy، وشونبرغ [ر] A.Schoenberg، أحد أهم المشاركين في تحديث الرؤيا الجمالية، وتجديد تقانات الفنون الموسيقية في القرن العشرين. وهو باحث عبقري متعدد الاهتمامات، تميز من معاصريه برغبته الجامحة في التجديد المستمر.
ويتفق النقاد والمؤرخون على تمييز ثلاث مراحل في نتاج سترافنسكي:
ـ المرحلة الروسية: ضمت أعمالاً ذات صلة وثيقة بالتراث الثقافي الروسي أهمها «العصفور الناري»، و«بتروشكا»، و«تتويج الربيع»، و«الثعلب»، و«العرس»، و«أوبرا العندليب»، و«قصة جندي». وتلحق بهذه المرحلة الفترة المعاصرة للحرب العالمية الأولى التي أمضاها سترافنسكي في سويسرا ألف فيها أعمالاً متأثرة بموسيقى الجاز.
ـ المرحلة النيوكلاسيكية: وهي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى التي تميزت برفض الرموز الجمالية المترفة لحقبة ما قبل الحرب، والتخلي عن التفاصيل الثانوية، إذ باتت الأفكار الموسيقية في غاية البساطة لتغدو في متناول الأوركسترات الصغيرة. كما تحولت هذه المرحلة إلى كلاسيكية جديدة أوقعت الجمهور والنقاد في حيرة وضياع، إذ رأى بعضهم في نيوكلاسيكية سترافنسكي حنيناً نحو الماضي، وميلاً غريزياً لإعادة تأليف موسيقى بعض المؤلفين مثل برغوليزي، وتشايكوفسكي. فقد امتاز سترافنسكي بقدرة خارقة على تحويل النصوص والأشكال الموسيقية القديمة إلى ألوان ذات حداثة مستمرة، وذلك بإعادة شحن أشكالها الماضية بأفكار مبتكرة، وتأليف أعمال جديدة بأساليب تجمع بين موسيقى سابقيه وأسلوبه الشخصي.
ففي عمله «الثُّمانية» عودة إلى موسيقى الحجرة لعصر الباروك. وفي سوناتا [ر] البيانو (1924) تذكير بجهابذة الكلافسان [ر. البيانو] الفرنسيين. وفي باليه «أبولو»حنين لعصر النهضة. وفي «القداس» (1948) إيحاء لأسلوب الموسيقي ماشو(1300ـ1377) G.Machaut. وتبلغ هذه المرحلة ذروتها بتأليف «سيرة فاسق».
ـ المرحلة الموسيقية النسقية: أظهر سترافنسكي طوال سيرته الفنية اهتماماً وتقديراً بالغين لمؤلفات شونبرغ وطلابه مثل بيرغ [ر] A.Berg، وفيبرن[ر] A.Webern. وبدأ بتقبل أسلوب «اللامقامية» atonality في إثر استماعه رباعية [ر] وترية من تأليف فيبرن. فقد وجد سترافنسكي في مؤلفات هذا الموسيقي بساطة فنية مثالية تتوافق مع طموحاته. فبدأ بتأليف الأعمال متبنياً الأسلوب النسقي مثل «السباعية»، في حين بلغ النضج عنده في هذا الأسلوب الجديد بتأليف باليه «أغون»، و«حركات» للبيانو والأوركسترا (1959)، و«تراتيل جنائزية» (1966).
تمتع سترافنسكي بقدرة كبيرة على التضاد المتجدد في أساليب موسيقاه. فقد تنقل من الأجواء السحرية لـ «العصفور الناري»، إلى البساطة البالغة والواقعية الشعبية في «بتروشكا»، ثم العودة إلى رؤى هذيانية لفوضى ما قبل التاريخ في «تتويج الربيع»، ومن مشاهدة الألعاب المضحكة في «الثعلب»، إلى الوقار عند استعراض مسرح جوال في «قصة الجندي»، ومن مغامرات «بولتشينيلا» في نابولي، إلى شاعرية تشايكوفسكي في «قبلة الساحرة»، وإلى إعادة إحياء رقصات من القرن السابع عشر وفق المنظومة النسقية في «أغون». وخير ما يختزل هذه التحولات، مقولة الباحث الفرنسي فويرموز (1878ـ1960)E.Vuillermoz : «لم يحرز سترافنسكي النصر على الساحة نفسها مرتين».
واهي سفريان