لغات (تعدد) Multilingualism - Plurilinguisme
اللغات (تعدد ـ)
يطلق اسم التعددية اللغوية plurilinguisme على الوضع الذي يجري فيه استخدام شخص أو مجموعة بشرية لأكثر من لغة شفاهة، في غالب الأحيان، وكتابة في أحيان أقل. وتعدّ الثنائية اللغوية bilinguisme، أي الاستخدام المتزامن للغتين فقط، حالة خاصة من التعددية اللغوية لكنها الحالة الأكثر انتشاراً.
وُجدت التعددية اللغوية مع بدء التواصل البشري الناشئ من حركات الهجرة الأولى للإنسان. وتقول أسطورة برج بابل إن البشر كانوا ينطقون جميعاً بلغة واحدة. وعندما شاؤوا بلوغ المعرفة القصوى، المحظورة عليهم، حاولوا بناء ذاك البرج العالي لبلوغ مقر الرب، فبث الرب فيهم ألسنة متعددة فضعف التواصل بينهم، وسادت الفوضى فتعذر عليهم إنجاز مشروعهم وإنهاء بنائه. وكانت تلك نشأة اللغات (حسب تلك الأسطورة).
أما علم اللغة، فيقول بوجود عدد كبير من الأسر اللغوية ذات الحدود الجغرافية الواضحة لكل منها، تفرعت منها عبر التطور التاريخي وحركات الهجرة لغات فرعية، منها ما تفرع مجدداً وانتشر انتشاراً كبيراً، ومنها ما بقي محافظاً على وحدته وحدوده الجغرافية.
ومع انفتاح الحدود وتزايد ظاهرة الهجرة وعولمة التبادلات وتطور وسائل الاتصال التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، باتت معرفة لغة ثانية، وثالثة أحياناً، واحداً من الرهانات الثقافية والمهنية الأساسية للمواطن الذي يسعى إلى أن يكون فعالاً ليس في مجتمعه وحسب، بل في العالم كله. فهي تهيئ له فرصة الحوار مع الآخر وتبادل المعارف والتقانات في سبيل الوصول إلى مجتمع أفضل.
وقد وعت بعض الدول أهمية هذا الرهان فجعلت من تعلم اللغة الثانية، وأحياناً الثالثة، أحد مقومات النظام التعليمي فيها. كما هي الحال في غالبية دول الاتحاد الأوربي، وفي كندا وعدد من الدول العربية. فأدرجت اللغات الأجنبية في مناهجها وأدخلتها في تعليم العديد من المواد، سواء كانت هذه المواد معنية باللغة ذاتها أم كانت موضوعات شتى أخرى تدرّس بلغة غير اللغة الأم، فهناك مواد علمية كالرياضيات والفيزياء والعلوم الطبية والهندسية تدرّس بلغة أجنبية في كثير من البلدان.
وتأتي اللغة الإنكليزية بين اللغات المعتمدة في التعليم لغة حية ثانية، في المرتبة الأولى على المستوى العالمي، تليها اللغة الفرنسية في البلدان الإفريقية والفرنكوفونية pays francophones ثم الألمانية في أوربا وبعض دول العالم الثالث، ثم الإسبانية فالإيطالية. فهل يؤدي هذا التعايش بين اللغات إلى تطور جديد للعلاقات البشرية وللواقع اللغوي؟ وهل تؤثر اللغات في بعضها على المستوى الفردي والاجتماعي، وكيف تظهر علامات هذا التأثير والتأثر؟
النظرية الألسنية théorie linguistique
ترى الألسنية أن الاحتكاك بين لغتين يؤدي إلى التداخل الحتمي بينهما. وتهدف الأبحاث الألسنية في هذا المضمار إلى دراسة التداخل interférence الذي ينشأ بين لغتين عندما تكونان في وضعية احتكاك الواحدة منهما مع الأخرى في إطار التعددية اللغوية، ودراسة تأثير كل منهما في الأخرى. فإذا تحدث متحدث يتقن عدة لغات بلغة منها، إنما يتأثر كلامه باللغة أو اللغات الأخرى التي يتقنها والمنافسة لها، ولاسيّما إذا كانت اللغة التي يتحدث بها في المكانة الأدنى من الإتقان. ويبدو ذلك جلياً عندما تأتي في حديثه سمات وخصوصيات غير موجودة في الاستخدام الشائع لهذه اللغة كلغة أولى. ولهذا التداخل أسباب كثيرة، منها ما له علاقة بالفرد نفسه، ومنها ما يتصل بطبيعة التعدد اللغوي الموجود لديه، أو بالوضع القائم في أثناء الكلام، أو ببنية كلٍ من اللغات المؤثرة والمتأثرة.
عندما يُلحظ على سبيل المثال عند العربي المتحدث بالإنكليزية، والفرنسي المتحدث بالإنكليزية، لهجة أو نبرة accent أو حروفاً صوتية phonèmes خاصة تذكِّر بلغته الأم، فذلك لأن في لغته الإنكليزية سمات آتية من لغته العربية أو الفرنسية. فعلى المستوى الصوتي مثلاً، يلفظ عربي اللغة الحرفَ الصوتي [P] باءً في بعض الأحيان لأنها الأقرب إلى الحرف العربي المعروف لديه، وفرنسي اللغة لا يلفظ الحرف الصوتي [h] لعدم وجوده في الفرنسية لفظاً.
وعلى مستوى المفردات lexique، توجد أمثلة كثيرة على انخراط مفردات أجنبية في لغة المتحدث العربي، يرسخها التطور العلمي والتقني الحديث المتسارع وعجز القائمين على تطوير اللغة العربية (وليس اللغة العربية نفسها) عن مواكبة المتطلبات الحديثة الملحة من المصطلحات. وبعض المفردات مثل CD-ROM وغيرها لهي غيض من فيض في هذا المضمار.
أما على مستوى النحو syntaxe والتراكيب النحوية فالأمثلة كثيرة أيضاً. وإذا سُمع شخص من الألزاس Alsace، وهي منطقة حدودية في فرنسا تحاذي ألمانيا، يقول الجملة الآتية:
Nous voulons à la ville aller.
بدلاً من:
Nous voulons aller à la ville.
فذلك لأن اللغة الألمانية التي تنافس الفرنسية عند سكان هذه المنطقة تضع الفعل في آخر الجملة.
وإذا قال عربي:
Est venu un homme.
بدلاً من:
Un homme est venu.
فذلك لأن اللغة العربية تضع الفعل في أول الجملة. وربما استخدم عربي الجملة الاسمية في الفرنسية على الرغم من عدم وجودها فيها بسبب وجودها في العربية، فيقول:
Ce problème difficile.
بدلاً من:
Ce problème est difficile.
كمقابل للجملة العربية: «هذه المسألة صعبة».
إن هذه الأمثلة تدل على أن المتحدث الألماني يطبق غالباً بنية الجملة الألمانية والمتحدث العربي يطبق ترتيب الجملة العربية على الجملة الفرنسية. كما تدل على أن تأثير اللغة الأم في اللغة الأجنبية أكبر منه بالاتجاه المعاكس.
وهذا التداخل ليس ثابتاً فهو يتطور مع الزمن، حيث يبدو أن القادم الجديد إلى بلد أجنبي يستخدم في المرحلة الأولى مفردات وتراكيب يتخلى عنها بعد فترة، وكلما ازداد إتقانه للغة البلد الجديد.
يحاول الألسنيون linguistes دراسة هذه التداخلات عن طريق تحليل وفهم أسبابها، ليس وصولاً إلى تفسير علمي لها فقط، بل إلى وضع التوقعات فيما يمكن أن يظهر منها وإلى تحسين الأساليب والوسائل التعليمية بهدف تحسين النتائج المرجوة من العملية التعليمية.
فؤاد خوري
اللغات (تعدد ـ)
يطلق اسم التعددية اللغوية plurilinguisme على الوضع الذي يجري فيه استخدام شخص أو مجموعة بشرية لأكثر من لغة شفاهة، في غالب الأحيان، وكتابة في أحيان أقل. وتعدّ الثنائية اللغوية bilinguisme، أي الاستخدام المتزامن للغتين فقط، حالة خاصة من التعددية اللغوية لكنها الحالة الأكثر انتشاراً.
وُجدت التعددية اللغوية مع بدء التواصل البشري الناشئ من حركات الهجرة الأولى للإنسان. وتقول أسطورة برج بابل إن البشر كانوا ينطقون جميعاً بلغة واحدة. وعندما شاؤوا بلوغ المعرفة القصوى، المحظورة عليهم، حاولوا بناء ذاك البرج العالي لبلوغ مقر الرب، فبث الرب فيهم ألسنة متعددة فضعف التواصل بينهم، وسادت الفوضى فتعذر عليهم إنجاز مشروعهم وإنهاء بنائه. وكانت تلك نشأة اللغات (حسب تلك الأسطورة).
أما علم اللغة، فيقول بوجود عدد كبير من الأسر اللغوية ذات الحدود الجغرافية الواضحة لكل منها، تفرعت منها عبر التطور التاريخي وحركات الهجرة لغات فرعية، منها ما تفرع مجدداً وانتشر انتشاراً كبيراً، ومنها ما بقي محافظاً على وحدته وحدوده الجغرافية.
ومع انفتاح الحدود وتزايد ظاهرة الهجرة وعولمة التبادلات وتطور وسائل الاتصال التي حولت العالم إلى قرية صغيرة، باتت معرفة لغة ثانية، وثالثة أحياناً، واحداً من الرهانات الثقافية والمهنية الأساسية للمواطن الذي يسعى إلى أن يكون فعالاً ليس في مجتمعه وحسب، بل في العالم كله. فهي تهيئ له فرصة الحوار مع الآخر وتبادل المعارف والتقانات في سبيل الوصول إلى مجتمع أفضل.
وقد وعت بعض الدول أهمية هذا الرهان فجعلت من تعلم اللغة الثانية، وأحياناً الثالثة، أحد مقومات النظام التعليمي فيها. كما هي الحال في غالبية دول الاتحاد الأوربي، وفي كندا وعدد من الدول العربية. فأدرجت اللغات الأجنبية في مناهجها وأدخلتها في تعليم العديد من المواد، سواء كانت هذه المواد معنية باللغة ذاتها أم كانت موضوعات شتى أخرى تدرّس بلغة غير اللغة الأم، فهناك مواد علمية كالرياضيات والفيزياء والعلوم الطبية والهندسية تدرّس بلغة أجنبية في كثير من البلدان.
وتأتي اللغة الإنكليزية بين اللغات المعتمدة في التعليم لغة حية ثانية، في المرتبة الأولى على المستوى العالمي، تليها اللغة الفرنسية في البلدان الإفريقية والفرنكوفونية pays francophones ثم الألمانية في أوربا وبعض دول العالم الثالث، ثم الإسبانية فالإيطالية. فهل يؤدي هذا التعايش بين اللغات إلى تطور جديد للعلاقات البشرية وللواقع اللغوي؟ وهل تؤثر اللغات في بعضها على المستوى الفردي والاجتماعي، وكيف تظهر علامات هذا التأثير والتأثر؟
النظرية الألسنية théorie linguistique
ترى الألسنية أن الاحتكاك بين لغتين يؤدي إلى التداخل الحتمي بينهما. وتهدف الأبحاث الألسنية في هذا المضمار إلى دراسة التداخل interférence الذي ينشأ بين لغتين عندما تكونان في وضعية احتكاك الواحدة منهما مع الأخرى في إطار التعددية اللغوية، ودراسة تأثير كل منهما في الأخرى. فإذا تحدث متحدث يتقن عدة لغات بلغة منها، إنما يتأثر كلامه باللغة أو اللغات الأخرى التي يتقنها والمنافسة لها، ولاسيّما إذا كانت اللغة التي يتحدث بها في المكانة الأدنى من الإتقان. ويبدو ذلك جلياً عندما تأتي في حديثه سمات وخصوصيات غير موجودة في الاستخدام الشائع لهذه اللغة كلغة أولى. ولهذا التداخل أسباب كثيرة، منها ما له علاقة بالفرد نفسه، ومنها ما يتصل بطبيعة التعدد اللغوي الموجود لديه، أو بالوضع القائم في أثناء الكلام، أو ببنية كلٍ من اللغات المؤثرة والمتأثرة.
عندما يُلحظ على سبيل المثال عند العربي المتحدث بالإنكليزية، والفرنسي المتحدث بالإنكليزية، لهجة أو نبرة accent أو حروفاً صوتية phonèmes خاصة تذكِّر بلغته الأم، فذلك لأن في لغته الإنكليزية سمات آتية من لغته العربية أو الفرنسية. فعلى المستوى الصوتي مثلاً، يلفظ عربي اللغة الحرفَ الصوتي [P] باءً في بعض الأحيان لأنها الأقرب إلى الحرف العربي المعروف لديه، وفرنسي اللغة لا يلفظ الحرف الصوتي [h] لعدم وجوده في الفرنسية لفظاً.
وعلى مستوى المفردات lexique، توجد أمثلة كثيرة على انخراط مفردات أجنبية في لغة المتحدث العربي، يرسخها التطور العلمي والتقني الحديث المتسارع وعجز القائمين على تطوير اللغة العربية (وليس اللغة العربية نفسها) عن مواكبة المتطلبات الحديثة الملحة من المصطلحات. وبعض المفردات مثل CD-ROM وغيرها لهي غيض من فيض في هذا المضمار.
أما على مستوى النحو syntaxe والتراكيب النحوية فالأمثلة كثيرة أيضاً. وإذا سُمع شخص من الألزاس Alsace، وهي منطقة حدودية في فرنسا تحاذي ألمانيا، يقول الجملة الآتية:
Nous voulons à la ville aller.
بدلاً من:
Nous voulons aller à la ville.
فذلك لأن اللغة الألمانية التي تنافس الفرنسية عند سكان هذه المنطقة تضع الفعل في آخر الجملة.
وإذا قال عربي:
Est venu un homme.
بدلاً من:
Un homme est venu.
فذلك لأن اللغة العربية تضع الفعل في أول الجملة. وربما استخدم عربي الجملة الاسمية في الفرنسية على الرغم من عدم وجودها فيها بسبب وجودها في العربية، فيقول:
Ce problème difficile.
بدلاً من:
Ce problème est difficile.
كمقابل للجملة العربية: «هذه المسألة صعبة».
إن هذه الأمثلة تدل على أن المتحدث الألماني يطبق غالباً بنية الجملة الألمانية والمتحدث العربي يطبق ترتيب الجملة العربية على الجملة الفرنسية. كما تدل على أن تأثير اللغة الأم في اللغة الأجنبية أكبر منه بالاتجاه المعاكس.
وهذا التداخل ليس ثابتاً فهو يتطور مع الزمن، حيث يبدو أن القادم الجديد إلى بلد أجنبي يستخدم في المرحلة الأولى مفردات وتراكيب يتخلى عنها بعد فترة، وكلما ازداد إتقانه للغة البلد الجديد.
يحاول الألسنيون linguistes دراسة هذه التداخلات عن طريق تحليل وفهم أسبابها، ليس وصولاً إلى تفسير علمي لها فقط، بل إلى وضع التوقعات فيما يمكن أن يظهر منها وإلى تحسين الأساليب والوسائل التعليمية بهدف تحسين النتائج المرجوة من العملية التعليمية.
فؤاد خوري