ليبيا في عصور قديمه Libya - Libye
ليبيا في العصور القديمة
يعود اسم ليبيا Libya في شكله الحالي إلى الصيغة الإغريقية Libye للاسم الذي أطلقه المستوطنون الإغريق على المنطقة الواقعة غربي وادي النيل الذي تقول الأسطورة عنه: إنه كان اسماً لزوجة الإله بوسيدون [ر] Poseidon إله البحار، ولكنه مأخوذ في الحقيقة من اسم قبيلة ليبو Libu المذكورة في المصادر المصرية؛ والتي كانت تقيم في منطقة برقة، ثم أطلق اليونانيون والكتّاب القدماء هذه التسمية على القارة الإفريقية. وهكذا صار للاسم مدلولان: أحدهما برقة وشمالي إفريقية، والآخر القارة الإفريقية التي شكلت مع آسيا وأوربا مفهوم العالم القديم عند الإغريق.
ولكن المصادر المصرية القديمة استخدمت أيضاً تسمية قبيلة التحنو Teheno للدلالة على الليبيين القدماء. أما أشهر القبائل الليبية، التي غزت مصر في عهد المملكة المصرية الحديثة فكانت قبائل الليبو والمشواش Mashwesh وقد وطَّن رعمسيس الثالث Ramses III مجموعات منها في مصر، وصاروا يخدمون مرتزقة في الجيش المصري؛ حتى إن أحد قادتهم المدعو شيشُنق الأول Shishonk I وصل عام 950 ق.م إلى عرش مصر، وأسس السلالة الثانية والعشرين التي حكمتها ما يزيد على قرنين من الزمن.
أما عن ليبيا في عصور ما قبل التاريخ فقد دلّت الأبحاث والدراسات الأثرية على أن منطقة شمالي إفريقيا كانت غزيرة الأمطار وكثيرة الأشجار والحيوانات. وعثر الباحثون في باطن الصحراء الليبية على جذوع أشجار متحجرة وبقايا عظام حيوانية مختلفة، مثلما عثروا أيضاً على بقايا الأدوات الحجرية التي استخدمها الإنسان القديم، كما عثروا على رسومات منقوشة على الصخور في الكهوف الجبلية الواقعة جنوبي فزان (جبل أكاكوس) تمثّل صيّادين وحيوانات تعيش اليوم في البيئة الاستوائية، مثل الزراف والفيلة ووحيد القرن والبقر الوحشي.
وتبعاً لانقسام ليبيا إلى إقليمين كبيرين تفصل بينهما منطقة صحراوية واسعة، هما برقة في الشرق وطرابلس في الغرب، فقد اتخذ تاريخ ليبيا القديم مسارين مختلفين، ففي حين ارتبطت منطقة برقة تاريخياً وحضارياً بمصر القديمة وبالإغريق الذين استوطنوها، فإن منطقة طرابلس ارتبطت بالمغرب العربي وبقرطاجة وحضارتها. ويمكن إضافة منطقة ثالثة هي واحة فزان، التي قامت فيها حضارة الغرامنتيين الصحراوية.
كان لاتصال الليبيين بجيرانهم المصريين أثره الواضح في حضارتهم وثقافتهم وديانتهم، فقد تأثروا بالعادات والتقاليد المصرية، فدفنوا موتاهم حسب الطريقة المصرية، وقلّدوا الاحتفالات التي كان يقيمها الفراعنة في المناسبات القومية والدينية، كما لقبوا أنفسهم بألقاب الفراعنة. وانتشرت بين الليبيين عبادة بعض الآلهة المصرية، مثل إيزيس Isis وسيرابيس Serapis، وقدموا القرابين. وقد عثر على معابد لهذين الإلهين حتى في لبدة وصبراته في إقليم طرابلس الغرب. وكان الملوك الليبييون يعينون أبناءهم رؤساء لكهنة الإله آمون Amun، مثلما كان يفعل فراعنة مصر.
أما الغرامنتيّون Garamantes فكانوا قبائل استوطنت منطقة فزّان (في الجنوب الغربي من ليبيا) نحو القرن العاشر قبل الميلاد، واتخذوا من مدينة غَرَمَة Garama بوادي الآجال عاصمة لهم، وأقاموا حضارة عريقة. وقد عملوا بالزراعة ورعي الماشية، واستخدموا العربات التي تجرّها الخيول، واشتغل الغرامنتيون بتجارة القوافل عبر الصحراء، وكانوا يحملون إلى إقليم طرابلس البضائع المختلفة من أواسط إفريقيا، مثل الحيوانات والعاج والبخور والبهارات والذهب والفضة، ويبيعونها إلى الفينيقيين هناك، ويحصلون بالمقابل على المنسوجات الصوفية والحريرية والأسلحة المصنوعة من الحديد وبعض الأواني الفخارية والزجاجية.
وقد استطاع الغرامنتيون مقاومة الغزو الروماني في مطلع القرن الأول الميلادي. وعندما تولّى الامبراطور سبتيميوس سفيروس Septimius Severus حكم الامبراطورية الرومانية (193-211م) ازدهرت التجارة بين جرمة ولبدة وغيرها من المدن الليبية.
وقد عثر في موقع مدينة جرمة القديمة على آثار الغرامنتيين المتمثلة في عدد من المباني والقبور، التي وجد فيها كثير من أدوات الزينة كالعقود والخرز والأساور، كما عثر على بعض الأواني الفخارية والزجاجية ولقى أثرية مختلفة .
كان نظام الحكم في ليبيا قائماً على أساس قبلي؛ بمعنى أن لكل قبيلة رئيسها أو ملكها، وكان منصبه وراثياً، ويشترط في رئيس القبيلة القدرة والكفاءة، وكان يساعده مجلس استشاري من وجوه القبيلة. وفي بعض الأحيان كانت تتحالف قبيلتان مع بعضهما، مثلما فعل الغرامنتيون والنسامونيون عندما هاجموا القوات الرومانية في القرن الثاني الميلادي.
كانت الأسرة أساس المجتمع الليبي القديم، وكان تعدد الزوجات أمراً شائعاً آنذاك، كما كان الأب يتمتع بسلطة مطلقة في الأسرة.
وفيما يتعلق بالحياة الاقتصادية فإن سكان المناطق الساحلية الخصبة والواحات كانوا يعيشون حياة شبه مستقرة، ويعملون في الزراعة. أما في داخل ليبيا فقد تميزت حياة الليبيين القدماء بالتنقل والترحال بحثاً عن العشب والماء وعملوا بالرعي وتربية المواشي.
ومارس الليبيّون القدماء بعض الحرف البسيطة التي تلبي احتياجاتهم المختلفة، وقد أدّت التجارة دوراً كبيراً في حياتهم، فكانوا يتاجرون مع البلدان الإفريقية، وكانت قوافلهم تحمل إليها الأقمشة والأدوات الفخارية والزجاجية، وتعود منها محملة بالعاج وخشب الأبنوس وريش النعام وناب الفيل والبخور وغيرها.
وقد عثر علماء الآثار على بعض النقوش التي تمثّل الكتابة الليبية القديمة التي كانت تتكون من ثلاثين حرفاً، تكتب على شكل أعمدة من أسفل إلى أعلى، وقد لاحظ العلماء وجود تشابه كبير بين الكتابة المصرية والليبية القديمة، وكذلك بين اللغتين من حيث المفردات والقواعد .
عبد الليبيون القدماء بعض المظاهر الطبيعية مثل الشمس والقمر والنجوم، وقدسوا بعض الحيوانات. ومن الآلهة التي اشتهرت عبادتها عندهم الإله الأعظم الذي كانوا يرمزون له بعجل يحمل بين قرنيه قرص الشمس، وعبدوا كذلك الآلهة إيزيس وسيرابيس والإله آمون الذي عرف عندهم باسم زيوس حامون، وقد عثر على بعض معابده في بنغازي وساحل سرت.
بقايا معبد قورينة قرب بنغازي
إقليم برقة (المدن الخمس):
بدأ تاريخه المعروف بقدوم مستوطنين إغريق استقروا على سفوح الجبل الأخضر، وأسسوا مستعمرة قورينة Kyrene عام 631 ق.م التي أعطت اسمها للإقليم في العصور الكلاسيكية، فعرف باسم قورينايكه Kyrenaika. وتقول الروايات الإغريقية: إن أولئك المستوطنين جاؤوا من جزيرة ثيرا Thera (سانتورين حالياً Santorin)، وأقاموا مستعمرتهم عند نبع مقدس للإله أبولون، واتخذ قائد المهاجرين اللقب الملكي الليبي باتوس Battus اسماً له. وسرعان ما ازدهرت المدينة، وجاءها مستوطنون جدد من بلاد اليونان، وقامت بعد ذلك بدورها بتأسيس عدد من المدن؛ أهمها: أبولونيا Apollonia، مرفأ قورينة (سوسة الحالية)، ومدينة برقة (المرج) وبطولمايس Ptolemais (طلميثة حالياً) وطوخيرا Teucheira (طوكرة) التي حملت أيضاً اسم أرسينوي Arsinoe، ومدينة يوهسبريديس Euhesperides التي دعيت فيما بعد برنيقي Berenike، وهي مدينة بنغازي الحالية.
أسّس باتوس سلالة ملكية حكمت مايقرب من قرنين من الزمن. وفي عام 525ق.م اعترفت بالسيادة الفارسية ثم بالسيادة المقدونية بعد احتلال الاسكندر الكبير لمصر عام 331ق.م. وبعد موت الاسكندر بسط بطلميوس سيطرته على الاقليم وعين عليه ابن زوجته ماغاس Magas، الذي أعلن استقلاله عن البطالمة. وأعقب ذلك فترة راوحت بين التبعية والاستقلال، وأخيراً أوصى بها أبيون Apion لروما عام 96ق.م ليبدأ العهد الروماني في تاريخ المنطقة.
جعل الرومان إقليم برقة ولاية رومانية عام 74ق.م ألحقت بها جزيرة كريت منذ عام 67ق.م ووضعت عام 27ق.م تحت إشراف مجلس الشيوخ الروماني. عانت المنطقة من ثورة لليهود في عهد الامبراطور ترايانوس عام 117م، ولكن الامبراطور هادريان والأباطرة اللاحقين اهتموا باصلاح الأوضاع بحيث استعادت ازدهارها السابق. وفي القرن الرابع شكلت المدن الخمس (Pentapolis) ولاية رومانية باسم «ليبيا العليا» Libya Superior ، تقابلها ليبيا السفلى L.Inferior وكانت مدينة درنة تشكل الحد الفاصل بينهما.
أنجبت منطقة برقة عدداً من العلماء والفلاسفة من أشهرهم عالم الرياضيات ثيودوروس Theodoros والفيلسوف الكلبي أريستيبوس Arstippos والشاعر الكبير كاليماخوس [ر] Kallimachos والجغرافي الفلكي إراتوستنيس Eratosthenes وغيرهم.
كما اشتهرت بانتاجها الوفير من الحبوب والزيت والصوف ونبات السلفيوم Silphium الطبي، الذي احتكر تجارته ملوك قورينة، يضاف إلى ذلك تربية الخيول والأبقار والأغنام مما زاد من رخاء الاقليم وغناه.
مدينة صبراتة الرومانية
إقليم طرابلس الغرب (المدن الثلاث)
بدأت العصور التاريخية في هذا الإقليم بوصول الفينقيين إلى شواطئه وإقامتهم عدداً من المحطات والمراكز التجارية التي تطورت إلى مدن مزدهرة في عهد السيطرة القرطاجية عليها، وعلى رأس هذه المدن لبدة الكبرى وأويا Oea وصبراته Sabratha، أي المدن الثلاث، التي ستحمل أويا اسمها وتعرف باسم طرابلس Tripolis. وقد اكتسبت أهميتها من غنى المنطقة بأشجار الزيتون ومن تجارة القوافل عبر الصحراء الكبرى الإفريقية، التي كانت جرما تشكل صلة الوصل فيما بينها.
بقي هذا الإقليم مرتبطاً بقرطاجة، التي امتد نفوذها حتى خليج سرت، قروناً طوالاً حتى نهاية الحرب البونية الثانية (201ق.م)، عندما بدأ الملك النوميدي ماسينيسا Massinissa بانتزاعه من القرطاجيين بدعم من الرومان. وبعد تدمير قرطاجة عام 146 ق.م والقضاء على الملك النوميدي يوغورتا Iugurtha عام 105ق.م، ضُمت المدن الثلاثة إلى ولاية أفريكا Africa وصارت تحت السيطرة الرومانية المباشرة،وجاءتها أعداد متزايدة من المستوطنين الذين سكنوا في مستعمرات أقيمت خصيصاً لهم على حساب أراضي السكان الوطنيين، وبدأوا يستغلونها في زراعة مختلف المحاصيل، خصوصاً الحبوب التي كانت تصدر إلى روما بكميات كبيرة، بينما تحول أهل البلاد إلى أجراء يعملون في مزارع الرومان. وهذا أدى إلى قيام الثورات إلى أن ارتقى عرش الامبراطورية سبتيميوس سفيروس[ر] ابن مدينة لبدة، الذي أقام خطاً من التحصينات لحماية المناطق المدنية من هجمات القبائل. وقد اشتمل هذا الخط الدفاعي Limes Tripolitana على عدد من الحصون والقلاع، وكذلك على مزارع منحت للسكان الوطنين ليقوموا بزراعتها والدفاع عن مناطق الحدود في الوقت نفسه. وهكذا استتب الأمن في إقليم المدن الثلاث،وقد نالت لبدة في عهده (193-211م) عناية خاصة.
بوابة لبدة الكبرى
كانت لبدة في الحقيقة أعظم هذه المدن والمركز الذي تمحور حوله تاريخ الإقليم،وقد عرفت باسم لبدة Lepcis (أو Leptis) الكبرى Magna، وكانت تتمتع بالحكم الذاتي ويحكمها قضاة يدعون سوفيت Suffetes (وهو لقب قضاة قرطاجة) . جعلها الامبراطور ترايانوس [ر] مستعمرة رومانية فحملت اسمه (Ulpia Traiana) إلى جانب اسمها الأصلي.
ثم منحها ابنها سبتميوس سفيروس الحقوق الإيطالية التي تضمنت الاعفاء من الضرائب وحق سكانها في امتلاك الأراضي،كما أنعم عليها بالأبنية والمنشآت الفخمة مثل قوس النصر والسوق الجديدة والبازيليكا وشارع معمد يقود إلى مرفئها الذي أنشئ حديثاً آنذاك. واعترافاً بهذه العطاءات أضاف مواطنو لبدة إلى اسم مدينتهم اللقب سبتيميا Septimia وسموا أنفسهم «سبتيمانيين» Septimani.
سادت الفوضى والاضطرابات في الخمسين سنة التي تلت نهاية حكم الأسرة السيفريـة (235م) ومع مجيء الامبراطور ديوقليتيانوس [ر]عام 285م استقرت الأوضاع من جديد وازدهر الاقليم، الذي صار يشكل ولاية رومانية مستقلة باسم «الطرابلسية» Tripolitana وعاصمتها لبدة الكبرى. وفي عهد قسطنطين الكبير تم الاعتراف بالمسيحية كإحدى الديانات الرسمية في الامبراطورية بعد عصر الاضطهاد، الذي شهدته أيام ديوقليتيانوس. وقد نشأت في الإقليم طائفة خاصة عرفت باسم المذهب الدوناتي Donatists، الذي اعتبرته الكنيسة الرسيمة الكاثوليكية نوعاً من الهرطقة، مما أدى إلى نشوب صراعات دينية في المنطقة، التي بدأت تعاني أيضاً من هجمات القبائل البدوية وانعدام الأمن. ثم غزا الفاندال [ر] شمالي إفريقيا واحتلوا قرطاجة عام 431م ومدوا سلطتهم شرقاً لتشمل الولاية الطرابلسية عام 455 والتي دام حكمها حتى عام 534 لتنتقل السيادة عليها إلى الامبراطورية الرومانية الشرقية في القسطنطينية وبقي الأمر كذلك حتى الفتح العربي الإسلامي عام 642م، الذي شكل بداية عصر جديد في تاريخ طرابلس الغرب والمغرب العربي بأكمله.
وقد أظهرت التنقيبات الأثرية التي بدأت عام 1920 روعة المدينة في العصور الكلاسيكية وتعد أطلالها اليوم من أجمل ما خلفته العصور القديمة في ليبيا.
محمد الزين
ليبيا في العصور القديمة
يعود اسم ليبيا Libya في شكله الحالي إلى الصيغة الإغريقية Libye للاسم الذي أطلقه المستوطنون الإغريق على المنطقة الواقعة غربي وادي النيل الذي تقول الأسطورة عنه: إنه كان اسماً لزوجة الإله بوسيدون [ر] Poseidon إله البحار، ولكنه مأخوذ في الحقيقة من اسم قبيلة ليبو Libu المذكورة في المصادر المصرية؛ والتي كانت تقيم في منطقة برقة، ثم أطلق اليونانيون والكتّاب القدماء هذه التسمية على القارة الإفريقية. وهكذا صار للاسم مدلولان: أحدهما برقة وشمالي إفريقية، والآخر القارة الإفريقية التي شكلت مع آسيا وأوربا مفهوم العالم القديم عند الإغريق.
ولكن المصادر المصرية القديمة استخدمت أيضاً تسمية قبيلة التحنو Teheno للدلالة على الليبيين القدماء. أما أشهر القبائل الليبية، التي غزت مصر في عهد المملكة المصرية الحديثة فكانت قبائل الليبو والمشواش Mashwesh وقد وطَّن رعمسيس الثالث Ramses III مجموعات منها في مصر، وصاروا يخدمون مرتزقة في الجيش المصري؛ حتى إن أحد قادتهم المدعو شيشُنق الأول Shishonk I وصل عام 950 ق.م إلى عرش مصر، وأسس السلالة الثانية والعشرين التي حكمتها ما يزيد على قرنين من الزمن.
أما عن ليبيا في عصور ما قبل التاريخ فقد دلّت الأبحاث والدراسات الأثرية على أن منطقة شمالي إفريقيا كانت غزيرة الأمطار وكثيرة الأشجار والحيوانات. وعثر الباحثون في باطن الصحراء الليبية على جذوع أشجار متحجرة وبقايا عظام حيوانية مختلفة، مثلما عثروا أيضاً على بقايا الأدوات الحجرية التي استخدمها الإنسان القديم، كما عثروا على رسومات منقوشة على الصخور في الكهوف الجبلية الواقعة جنوبي فزان (جبل أكاكوس) تمثّل صيّادين وحيوانات تعيش اليوم في البيئة الاستوائية، مثل الزراف والفيلة ووحيد القرن والبقر الوحشي.
وتبعاً لانقسام ليبيا إلى إقليمين كبيرين تفصل بينهما منطقة صحراوية واسعة، هما برقة في الشرق وطرابلس في الغرب، فقد اتخذ تاريخ ليبيا القديم مسارين مختلفين، ففي حين ارتبطت منطقة برقة تاريخياً وحضارياً بمصر القديمة وبالإغريق الذين استوطنوها، فإن منطقة طرابلس ارتبطت بالمغرب العربي وبقرطاجة وحضارتها. ويمكن إضافة منطقة ثالثة هي واحة فزان، التي قامت فيها حضارة الغرامنتيين الصحراوية.
كان لاتصال الليبيين بجيرانهم المصريين أثره الواضح في حضارتهم وثقافتهم وديانتهم، فقد تأثروا بالعادات والتقاليد المصرية، فدفنوا موتاهم حسب الطريقة المصرية، وقلّدوا الاحتفالات التي كان يقيمها الفراعنة في المناسبات القومية والدينية، كما لقبوا أنفسهم بألقاب الفراعنة. وانتشرت بين الليبيين عبادة بعض الآلهة المصرية، مثل إيزيس Isis وسيرابيس Serapis، وقدموا القرابين. وقد عثر على معابد لهذين الإلهين حتى في لبدة وصبراته في إقليم طرابلس الغرب. وكان الملوك الليبييون يعينون أبناءهم رؤساء لكهنة الإله آمون Amun، مثلما كان يفعل فراعنة مصر.
أما الغرامنتيّون Garamantes فكانوا قبائل استوطنت منطقة فزّان (في الجنوب الغربي من ليبيا) نحو القرن العاشر قبل الميلاد، واتخذوا من مدينة غَرَمَة Garama بوادي الآجال عاصمة لهم، وأقاموا حضارة عريقة. وقد عملوا بالزراعة ورعي الماشية، واستخدموا العربات التي تجرّها الخيول، واشتغل الغرامنتيون بتجارة القوافل عبر الصحراء، وكانوا يحملون إلى إقليم طرابلس البضائع المختلفة من أواسط إفريقيا، مثل الحيوانات والعاج والبخور والبهارات والذهب والفضة، ويبيعونها إلى الفينيقيين هناك، ويحصلون بالمقابل على المنسوجات الصوفية والحريرية والأسلحة المصنوعة من الحديد وبعض الأواني الفخارية والزجاجية.
وقد استطاع الغرامنتيون مقاومة الغزو الروماني في مطلع القرن الأول الميلادي. وعندما تولّى الامبراطور سبتيميوس سفيروس Septimius Severus حكم الامبراطورية الرومانية (193-211م) ازدهرت التجارة بين جرمة ولبدة وغيرها من المدن الليبية.
وقد عثر في موقع مدينة جرمة القديمة على آثار الغرامنتيين المتمثلة في عدد من المباني والقبور، التي وجد فيها كثير من أدوات الزينة كالعقود والخرز والأساور، كما عثر على بعض الأواني الفخارية والزجاجية ولقى أثرية مختلفة .
كان نظام الحكم في ليبيا قائماً على أساس قبلي؛ بمعنى أن لكل قبيلة رئيسها أو ملكها، وكان منصبه وراثياً، ويشترط في رئيس القبيلة القدرة والكفاءة، وكان يساعده مجلس استشاري من وجوه القبيلة. وفي بعض الأحيان كانت تتحالف قبيلتان مع بعضهما، مثلما فعل الغرامنتيون والنسامونيون عندما هاجموا القوات الرومانية في القرن الثاني الميلادي.
كانت الأسرة أساس المجتمع الليبي القديم، وكان تعدد الزوجات أمراً شائعاً آنذاك، كما كان الأب يتمتع بسلطة مطلقة في الأسرة.
وفيما يتعلق بالحياة الاقتصادية فإن سكان المناطق الساحلية الخصبة والواحات كانوا يعيشون حياة شبه مستقرة، ويعملون في الزراعة. أما في داخل ليبيا فقد تميزت حياة الليبيين القدماء بالتنقل والترحال بحثاً عن العشب والماء وعملوا بالرعي وتربية المواشي.
ومارس الليبيّون القدماء بعض الحرف البسيطة التي تلبي احتياجاتهم المختلفة، وقد أدّت التجارة دوراً كبيراً في حياتهم، فكانوا يتاجرون مع البلدان الإفريقية، وكانت قوافلهم تحمل إليها الأقمشة والأدوات الفخارية والزجاجية، وتعود منها محملة بالعاج وخشب الأبنوس وريش النعام وناب الفيل والبخور وغيرها.
وقد عثر علماء الآثار على بعض النقوش التي تمثّل الكتابة الليبية القديمة التي كانت تتكون من ثلاثين حرفاً، تكتب على شكل أعمدة من أسفل إلى أعلى، وقد لاحظ العلماء وجود تشابه كبير بين الكتابة المصرية والليبية القديمة، وكذلك بين اللغتين من حيث المفردات والقواعد .
عبد الليبيون القدماء بعض المظاهر الطبيعية مثل الشمس والقمر والنجوم، وقدسوا بعض الحيوانات. ومن الآلهة التي اشتهرت عبادتها عندهم الإله الأعظم الذي كانوا يرمزون له بعجل يحمل بين قرنيه قرص الشمس، وعبدوا كذلك الآلهة إيزيس وسيرابيس والإله آمون الذي عرف عندهم باسم زيوس حامون، وقد عثر على بعض معابده في بنغازي وساحل سرت.
بقايا معبد قورينة قرب بنغازي
إقليم برقة (المدن الخمس):
بدأ تاريخه المعروف بقدوم مستوطنين إغريق استقروا على سفوح الجبل الأخضر، وأسسوا مستعمرة قورينة Kyrene عام 631 ق.م التي أعطت اسمها للإقليم في العصور الكلاسيكية، فعرف باسم قورينايكه Kyrenaika. وتقول الروايات الإغريقية: إن أولئك المستوطنين جاؤوا من جزيرة ثيرا Thera (سانتورين حالياً Santorin)، وأقاموا مستعمرتهم عند نبع مقدس للإله أبولون، واتخذ قائد المهاجرين اللقب الملكي الليبي باتوس Battus اسماً له. وسرعان ما ازدهرت المدينة، وجاءها مستوطنون جدد من بلاد اليونان، وقامت بعد ذلك بدورها بتأسيس عدد من المدن؛ أهمها: أبولونيا Apollonia، مرفأ قورينة (سوسة الحالية)، ومدينة برقة (المرج) وبطولمايس Ptolemais (طلميثة حالياً) وطوخيرا Teucheira (طوكرة) التي حملت أيضاً اسم أرسينوي Arsinoe، ومدينة يوهسبريديس Euhesperides التي دعيت فيما بعد برنيقي Berenike، وهي مدينة بنغازي الحالية.
أسّس باتوس سلالة ملكية حكمت مايقرب من قرنين من الزمن. وفي عام 525ق.م اعترفت بالسيادة الفارسية ثم بالسيادة المقدونية بعد احتلال الاسكندر الكبير لمصر عام 331ق.م. وبعد موت الاسكندر بسط بطلميوس سيطرته على الاقليم وعين عليه ابن زوجته ماغاس Magas، الذي أعلن استقلاله عن البطالمة. وأعقب ذلك فترة راوحت بين التبعية والاستقلال، وأخيراً أوصى بها أبيون Apion لروما عام 96ق.م ليبدأ العهد الروماني في تاريخ المنطقة.
جعل الرومان إقليم برقة ولاية رومانية عام 74ق.م ألحقت بها جزيرة كريت منذ عام 67ق.م ووضعت عام 27ق.م تحت إشراف مجلس الشيوخ الروماني. عانت المنطقة من ثورة لليهود في عهد الامبراطور ترايانوس عام 117م، ولكن الامبراطور هادريان والأباطرة اللاحقين اهتموا باصلاح الأوضاع بحيث استعادت ازدهارها السابق. وفي القرن الرابع شكلت المدن الخمس (Pentapolis) ولاية رومانية باسم «ليبيا العليا» Libya Superior ، تقابلها ليبيا السفلى L.Inferior وكانت مدينة درنة تشكل الحد الفاصل بينهما.
أنجبت منطقة برقة عدداً من العلماء والفلاسفة من أشهرهم عالم الرياضيات ثيودوروس Theodoros والفيلسوف الكلبي أريستيبوس Arstippos والشاعر الكبير كاليماخوس [ر] Kallimachos والجغرافي الفلكي إراتوستنيس Eratosthenes وغيرهم.
كما اشتهرت بانتاجها الوفير من الحبوب والزيت والصوف ونبات السلفيوم Silphium الطبي، الذي احتكر تجارته ملوك قورينة، يضاف إلى ذلك تربية الخيول والأبقار والأغنام مما زاد من رخاء الاقليم وغناه.
مدينة صبراتة الرومانية
إقليم طرابلس الغرب (المدن الثلاث)
بدأت العصور التاريخية في هذا الإقليم بوصول الفينقيين إلى شواطئه وإقامتهم عدداً من المحطات والمراكز التجارية التي تطورت إلى مدن مزدهرة في عهد السيطرة القرطاجية عليها، وعلى رأس هذه المدن لبدة الكبرى وأويا Oea وصبراته Sabratha، أي المدن الثلاث، التي ستحمل أويا اسمها وتعرف باسم طرابلس Tripolis. وقد اكتسبت أهميتها من غنى المنطقة بأشجار الزيتون ومن تجارة القوافل عبر الصحراء الكبرى الإفريقية، التي كانت جرما تشكل صلة الوصل فيما بينها.
بقي هذا الإقليم مرتبطاً بقرطاجة، التي امتد نفوذها حتى خليج سرت، قروناً طوالاً حتى نهاية الحرب البونية الثانية (201ق.م)، عندما بدأ الملك النوميدي ماسينيسا Massinissa بانتزاعه من القرطاجيين بدعم من الرومان. وبعد تدمير قرطاجة عام 146 ق.م والقضاء على الملك النوميدي يوغورتا Iugurtha عام 105ق.م، ضُمت المدن الثلاثة إلى ولاية أفريكا Africa وصارت تحت السيطرة الرومانية المباشرة،وجاءتها أعداد متزايدة من المستوطنين الذين سكنوا في مستعمرات أقيمت خصيصاً لهم على حساب أراضي السكان الوطنيين، وبدأوا يستغلونها في زراعة مختلف المحاصيل، خصوصاً الحبوب التي كانت تصدر إلى روما بكميات كبيرة، بينما تحول أهل البلاد إلى أجراء يعملون في مزارع الرومان. وهذا أدى إلى قيام الثورات إلى أن ارتقى عرش الامبراطورية سبتيميوس سفيروس[ر] ابن مدينة لبدة، الذي أقام خطاً من التحصينات لحماية المناطق المدنية من هجمات القبائل. وقد اشتمل هذا الخط الدفاعي Limes Tripolitana على عدد من الحصون والقلاع، وكذلك على مزارع منحت للسكان الوطنين ليقوموا بزراعتها والدفاع عن مناطق الحدود في الوقت نفسه. وهكذا استتب الأمن في إقليم المدن الثلاث،وقد نالت لبدة في عهده (193-211م) عناية خاصة.
بوابة لبدة الكبرى
كانت لبدة في الحقيقة أعظم هذه المدن والمركز الذي تمحور حوله تاريخ الإقليم،وقد عرفت باسم لبدة Lepcis (أو Leptis) الكبرى Magna، وكانت تتمتع بالحكم الذاتي ويحكمها قضاة يدعون سوفيت Suffetes (وهو لقب قضاة قرطاجة) . جعلها الامبراطور ترايانوس [ر] مستعمرة رومانية فحملت اسمه (Ulpia Traiana) إلى جانب اسمها الأصلي.
ثم منحها ابنها سبتميوس سفيروس الحقوق الإيطالية التي تضمنت الاعفاء من الضرائب وحق سكانها في امتلاك الأراضي،كما أنعم عليها بالأبنية والمنشآت الفخمة مثل قوس النصر والسوق الجديدة والبازيليكا وشارع معمد يقود إلى مرفئها الذي أنشئ حديثاً آنذاك. واعترافاً بهذه العطاءات أضاف مواطنو لبدة إلى اسم مدينتهم اللقب سبتيميا Septimia وسموا أنفسهم «سبتيمانيين» Septimani.
سادت الفوضى والاضطرابات في الخمسين سنة التي تلت نهاية حكم الأسرة السيفريـة (235م) ومع مجيء الامبراطور ديوقليتيانوس [ر]عام 285م استقرت الأوضاع من جديد وازدهر الاقليم، الذي صار يشكل ولاية رومانية مستقلة باسم «الطرابلسية» Tripolitana وعاصمتها لبدة الكبرى. وفي عهد قسطنطين الكبير تم الاعتراف بالمسيحية كإحدى الديانات الرسمية في الامبراطورية بعد عصر الاضطهاد، الذي شهدته أيام ديوقليتيانوس. وقد نشأت في الإقليم طائفة خاصة عرفت باسم المذهب الدوناتي Donatists، الذي اعتبرته الكنيسة الرسيمة الكاثوليكية نوعاً من الهرطقة، مما أدى إلى نشوب صراعات دينية في المنطقة، التي بدأت تعاني أيضاً من هجمات القبائل البدوية وانعدام الأمن. ثم غزا الفاندال [ر] شمالي إفريقيا واحتلوا قرطاجة عام 431م ومدوا سلطتهم شرقاً لتشمل الولاية الطرابلسية عام 455 والتي دام حكمها حتى عام 534 لتنتقل السيادة عليها إلى الامبراطورية الرومانية الشرقية في القسطنطينية وبقي الأمر كذلك حتى الفتح العربي الإسلامي عام 642م، الذي شكل بداية عصر جديد في تاريخ طرابلس الغرب والمغرب العربي بأكمله.
وقد أظهرت التنقيبات الأثرية التي بدأت عام 1920 روعة المدينة في العصور الكلاسيكية وتعد أطلالها اليوم من أجمل ما خلفته العصور القديمة في ليبيا.
محمد الزين