الطب النفسي يعيد اختراع نفسه بفضل التقدم في علم الأحياء
يقوم مجال الطب النفسي حاليًا بإعادة اختراع نفسه، والفضل يعود إلى التقدّم في علم الأحياء. حيث شهد هذا المجال تغيّرًا في الماضي، من علم النفس البحت إلى علم الفارماكولوجي (علم الأدوية)، والآن سيقوم بالتغيّر مجددًا. سنقوم ببنائه على الجينوم والعلوم العصبية، بفضل التطورات في دراسة تتابع الـDNA وفي مجال التصوير الوظيفي. سوف يشهد العقد القادم من الزمن تداخل كل هذه الخيوط العلمية لكي تصبح واحدًا. فبدأ الناس بالتعرّف على أن أمراضَا مثل الاكتئاب والشيزوفرينيا، ماهي إلا عِلل في المخّ أدّت إلى تغيرات فسيولوجية وليس مجرد تغيرات سلوكية. لكن، ما معنى أن نفكر في الأمراض العقلية على هذا النحو؟ هل علم النفس جزء من علم الأعصاب؟ أمراض عديدة، مثل السكتة الدماغية، تتعلق بضرر لمنطقة محددة في المخ. لكن الأمراض النفسية ستتضح أكثر إذا فكرنا فيها على أنّها أعطال في الدائرة الكهربائية للمخ، أو كما يسميها الباحثون (أمراضَا توصيلية) connectopathies. يمكنك خلق تشبيه قريب عن طريق التفكير في القلب، فالسلوك والطرق التفكيرية التي نراها في الأمراض العقلية، هي عوارض خلل في توصيل الدماغ “كتغيّر في نبض القلب”، بينما الأمراض العصبية الواضحة ستتشبه بالذبحة الصدرية مثلًا.
المشاكل الأولية
المشكلة الأساسية هي أنّه على الرغم من وجود آلاف الدراسات التي تبحث في العلامات البيولوجية المتورطة في أمراض الصحة العقلية، كالاكتئاب والشيزوفرينيا؛ إلا أنه لم يمكن تطبيق أي دراسة من تلك في العيادات. وفي الواقع، فإن القليل منها تم الحصول على نفس نتائجه من دراسة أخرى مماثلة. لذا فإن علماء النفس يعترضون على عدم وجود ميزة لاستخدام هذا المسار، بل تكلفة عالية فقط. ولكن هذا سابقٌ لأوانه، فكّر في التاريخ الحديث لمرض السرطان، فمنذ عقد من الزمن، أدرك الأطباء أن عليهم إعادة التفكير في طريقتهم التشخيصية للمرض. وكشفت الدراسات الجينية الجزيئية أن الأورام التي سمّيناها مُسبقًا “ورم الثدي” أو “ورم الرئة”؛ لها أشكال عديدة في الواقع. المعايير التشخيصية التقليدية مثل شكل أو موقع السرطان، أثبتت أنها تفتقد الدقة المطلوبة لاختيار أفضل علاج لكل شكل. والآن، فالطرق التشخيصية الأفضل، والتي تعتمد على العلامات البيولوجية، تسمح لنا باختيار علاج أفضل للمرضى، وبذلك توفر مستقبلًا أفضل لهم. بدأت عملية مماثلة في علم النفس، وكان أحد أول القائمين عليها هو مشروع معايير المؤسسة القومية الأمريكية للبحوث في الصحة العقلية “US National Institute of Mental Health’s Research Domain Criteria (RDoC) project” والذي يهدف إلى جمع معلومات جينومية، وخلوية، وتصويرية، واجتماعية، وسلوكية بأعداد كبيرة، للمصابين بما يُطلق عليه “أمراضًا عقلية”. وبدلًا من محاولة تقسيم تلك البيانات أسفل خانات سلوكية كما يفعل الطب النفسي السريري؛ فإن هذا المشروع سيعتمد على البيانات نفسها لتقسيم الخانات، تمامًا كما تعامل العلماء مع السرطان. فنحن نعتبر أن أمراضًا كالاكتئاب والشيزوفرينيا والتوحد هي حالات أحادية، ولكن ربما خلال عقد آخر من الزمن، سندرك أن البيولوجيا ستسمح لنا بإعادة تقسيم تلك الأمراض لتوافق علاجات محددة وتحقق مستقبلًا أفضل للمرضى. مثال آخر على ذلك هو البحث الحديث فيما يخص موضوع الانتحار، فقد وجد الباحثون علامات بيولوجية للسلوك الانتحاري تبدو مهمة في العديد من الخانات التشخيصية للمرض. بالإضافة لذلك، فدراسات بشأن الخلل النفسي، والاضطراب المزاجي، والاختلالات التطورية بدأت بإعادة تقسيم هذه الأمراض لخانات أكثر تحديدًا باستخدام العلامات البيولوجية والاختبارات الإدراكية الحديثة.
نقلة نوعية
هذه الخانات التشخيصية، التي ستكون معتمدة وصحيحة بيولوجيًا، ستظهر بعد حاجةٍ ماسةٍ وشديدةٍ لها في هذا الحقل. فبالنسبة لمن هم أقل من خمسين عامًا، فإن الأمراض النفسية تسبب إعاقات أكثر، ولها معدل وفيات أعلى، وتتطلب تكاليف أكثر من أي مجموعة أخرى من الأمراض. إذا كان المسار لعلاجٍ أفضل للسرطان تطلب دقة طبية كتلك، فبالتأكيد فإن أفضل أمل لتقليل الحالات المرضية والوفاة والتكلفة للأمراض النفسية، سيكون عن طريق تطوير اختبارات أكثر تحديدًا لما نسميه الآن “الأمراض العقليّة”، هذا سيحسن حيوات الملايين من الأشخاص الذين يعانون من تلك الأمراض.
يقوم مجال الطب النفسي حاليًا بإعادة اختراع نفسه، والفضل يعود إلى التقدّم في علم الأحياء. حيث شهد هذا المجال تغيّرًا في الماضي، من علم النفس البحت إلى علم الفارماكولوجي (علم الأدوية)، والآن سيقوم بالتغيّر مجددًا. سنقوم ببنائه على الجينوم والعلوم العصبية، بفضل التطورات في دراسة تتابع الـDNA وفي مجال التصوير الوظيفي. سوف يشهد العقد القادم من الزمن تداخل كل هذه الخيوط العلمية لكي تصبح واحدًا. فبدأ الناس بالتعرّف على أن أمراضَا مثل الاكتئاب والشيزوفرينيا، ماهي إلا عِلل في المخّ أدّت إلى تغيرات فسيولوجية وليس مجرد تغيرات سلوكية. لكن، ما معنى أن نفكر في الأمراض العقلية على هذا النحو؟ هل علم النفس جزء من علم الأعصاب؟ أمراض عديدة، مثل السكتة الدماغية، تتعلق بضرر لمنطقة محددة في المخ. لكن الأمراض النفسية ستتضح أكثر إذا فكرنا فيها على أنّها أعطال في الدائرة الكهربائية للمخ، أو كما يسميها الباحثون (أمراضَا توصيلية) connectopathies. يمكنك خلق تشبيه قريب عن طريق التفكير في القلب، فالسلوك والطرق التفكيرية التي نراها في الأمراض العقلية، هي عوارض خلل في توصيل الدماغ “كتغيّر في نبض القلب”، بينما الأمراض العصبية الواضحة ستتشبه بالذبحة الصدرية مثلًا.
المشاكل الأولية
المشكلة الأساسية هي أنّه على الرغم من وجود آلاف الدراسات التي تبحث في العلامات البيولوجية المتورطة في أمراض الصحة العقلية، كالاكتئاب والشيزوفرينيا؛ إلا أنه لم يمكن تطبيق أي دراسة من تلك في العيادات. وفي الواقع، فإن القليل منها تم الحصول على نفس نتائجه من دراسة أخرى مماثلة. لذا فإن علماء النفس يعترضون على عدم وجود ميزة لاستخدام هذا المسار، بل تكلفة عالية فقط. ولكن هذا سابقٌ لأوانه، فكّر في التاريخ الحديث لمرض السرطان، فمنذ عقد من الزمن، أدرك الأطباء أن عليهم إعادة التفكير في طريقتهم التشخيصية للمرض. وكشفت الدراسات الجينية الجزيئية أن الأورام التي سمّيناها مُسبقًا “ورم الثدي” أو “ورم الرئة”؛ لها أشكال عديدة في الواقع. المعايير التشخيصية التقليدية مثل شكل أو موقع السرطان، أثبتت أنها تفتقد الدقة المطلوبة لاختيار أفضل علاج لكل شكل. والآن، فالطرق التشخيصية الأفضل، والتي تعتمد على العلامات البيولوجية، تسمح لنا باختيار علاج أفضل للمرضى، وبذلك توفر مستقبلًا أفضل لهم. بدأت عملية مماثلة في علم النفس، وكان أحد أول القائمين عليها هو مشروع معايير المؤسسة القومية الأمريكية للبحوث في الصحة العقلية “US National Institute of Mental Health’s Research Domain Criteria (RDoC) project” والذي يهدف إلى جمع معلومات جينومية، وخلوية، وتصويرية، واجتماعية، وسلوكية بأعداد كبيرة، للمصابين بما يُطلق عليه “أمراضًا عقلية”. وبدلًا من محاولة تقسيم تلك البيانات أسفل خانات سلوكية كما يفعل الطب النفسي السريري؛ فإن هذا المشروع سيعتمد على البيانات نفسها لتقسيم الخانات، تمامًا كما تعامل العلماء مع السرطان. فنحن نعتبر أن أمراضًا كالاكتئاب والشيزوفرينيا والتوحد هي حالات أحادية، ولكن ربما خلال عقد آخر من الزمن، سندرك أن البيولوجيا ستسمح لنا بإعادة تقسيم تلك الأمراض لتوافق علاجات محددة وتحقق مستقبلًا أفضل للمرضى. مثال آخر على ذلك هو البحث الحديث فيما يخص موضوع الانتحار، فقد وجد الباحثون علامات بيولوجية للسلوك الانتحاري تبدو مهمة في العديد من الخانات التشخيصية للمرض. بالإضافة لذلك، فدراسات بشأن الخلل النفسي، والاضطراب المزاجي، والاختلالات التطورية بدأت بإعادة تقسيم هذه الأمراض لخانات أكثر تحديدًا باستخدام العلامات البيولوجية والاختبارات الإدراكية الحديثة.
نقلة نوعية
هذه الخانات التشخيصية، التي ستكون معتمدة وصحيحة بيولوجيًا، ستظهر بعد حاجةٍ ماسةٍ وشديدةٍ لها في هذا الحقل. فبالنسبة لمن هم أقل من خمسين عامًا، فإن الأمراض النفسية تسبب إعاقات أكثر، ولها معدل وفيات أعلى، وتتطلب تكاليف أكثر من أي مجموعة أخرى من الأمراض. إذا كان المسار لعلاجٍ أفضل للسرطان تطلب دقة طبية كتلك، فبالتأكيد فإن أفضل أمل لتقليل الحالات المرضية والوفاة والتكلفة للأمراض النفسية، سيكون عن طريق تطوير اختبارات أكثر تحديدًا لما نسميه الآن “الأمراض العقليّة”، هذا سيحسن حيوات الملايين من الأشخاص الذين يعانون من تلك الأمراض.