في أوائل العشرينيات من القرن التاسع عشر، ستكون فرنسا على موعد مع إنجاب أعظم شعرائها في شارع "هوتفيي" بباريس، في منزل ستتم إزالته لاحقًا في عهد بونابرت. هناك سيتم تعميده في كنيسة سان سولبيس، لاحقًا سوف يصبح فتى مشاكسًا، وفي السابعة عشرة من عمره سيكتب عنه مُدرِّسه: "لديه القدرة على الابتكار عندما يريد، وعلى الإجادة، وليس لديه من الجدية ما يكفي للقيام بدراسات قوية وجادة"، ثم يقوم بطرده في السنة التالية من المدرسة.
بعد أن كان الرومانتيكيون قد أنشدوا مدائح للرب سابقًا، قدّم بودلير ابتهالات للشيطان
الغول الشعري الذي سيكونه، والقنبلة الموقوتة التي سيحدثها في وجه المرحلة آنذاك، من خلال منح التعبير الشعري شكلًا جديدًا، ستكون بمثابة هزّة تعيد الاعتبار إلى الأدب الفرنسي، فلافونتين كان يبدو بلا طعم بالنسبة للأجانب، وراسين كان كتابًا مغلقًا ولغته مفرطة في الأناقة، ولا تمتلك حيوية بالنسبة لغير الفرنسيّين، وفيكتور هوجو نفسه لم يكن معروفًا بالكاد في الخارج إلا برواياته، على حدّ قول بول فاليري.
هكذا إذًا جاء بودلير (1821-1867) ليقلب المشهد، فحيث كان الرومانتيكيون قد أنشدوا مدائح للرب سابقًا، قدّم ابتهالات للشيطان، وإذا كانوا قد أشادوا بالحب الطاهر فقد عكف على تمجيد الشهوة الجسدية، وإذا كانوا قد قدموا زهورًا جميلة للحياة، فقد اقترح عفونة الجثث. لقد سعى باستمرار إلى استنباط الجمال من الشرّ، ذلك أن الجميع قبله سعى إلى استنباطه من الجميل فقط.
الذات لدى بودلير ليست فردية أو تعبيرية عن الشاعر، بل عامة تشرح ذلك العصر المتخبّط في ظواهر المدن الحديثة، التي فاجأته دون استعداد أو تأهيل، ودون قدرة على مواجهتها أو ردّها، ومن هنا حاول الشاعر الفرنسي مساعدة العالم الخارجي في بناء معماره الشعري، واستعادة استقلاليته وموضوعيته التي فتّتها الخيال الرومانتيكي.
قال عن قصيدة النثر إنها "خطرة كالحرية المطلقة". وبالفعل فقد دخلها شاعر الشرّ كما يدخل حطّابٌ مع فأسه غابةً مجهولة، مليئةً بالمهابة والخطر بقدر ما هي فاتنة ومغوية.
دخل بودلير إلى قصيدة النثر كما يدخل حطّابٌ مع فأسه غابةً مجهولة مليئةً بالمهابة والخطر
بقليل من التأمل العميق لمفهوم اللغة الشعرية عند بودلير، نجد أنه قد نجح في تحرير البعد الموسيقي كقرين لاختيار المكان الحضري، كمكان جديد للشعر، واختار الكلمات لتشييد نصّه مستندًا على طاقتها الموسيقية أكثر من قدرتها الدلالية، الأمر الذي جعل من لغته لغة توصيفية عذبة يغذيها الإيقاع والتناغم، علاوة على ارتباطها بعمق رؤيوي وحتى بغموض بحيث لا يعود ممكنًا أن ينفصل الصوت فيها عن المعنى.
ثمة خط نغميّ صافٍ وجرس شعري راسخ بصورة خالصة، تمايزه عن الأسلوب النثري الذي كان واضحًا في الشعر الفرنسي بعد منتصف القرن السابع عشر، ببساطةٍ يمكننا القول أنه استطاع إعادة الشعر إلى جوهره.
من "أزهار الشر"، إلى "سأم باريس" الذي نُشِرَ بعد موته، كانت حصيلة شعرية ذلك الفرنسي، إضافة إلى قصائد هنا وهناك، وبعض القصائد المنظومة المتعلّقة برحلته إلى بلجيكا، والتي أُدرجت لاحقًا جميعها في كتاب سُمّي بالأعمال الكاملة التي صدرت ترجمتها العربية عن "دار الشروق" في القاهرة في 921 صفحة، تتصدرها ثلاث مقدمات، كتب إحداها الشاعر بول فاليري، إضافة إلى ألبوم صور يعرض مراحل مختلفة من حياة بودلير، إلى جانب وثائق مهمة عديدة، منها غلاف الطبعة الأولى من أزهار الشر عليها تصحيحات بخط بودلير.
بعد أن كان الرومانتيكيون قد أنشدوا مدائح للرب سابقًا، قدّم بودلير ابتهالات للشيطان
الغول الشعري الذي سيكونه، والقنبلة الموقوتة التي سيحدثها في وجه المرحلة آنذاك، من خلال منح التعبير الشعري شكلًا جديدًا، ستكون بمثابة هزّة تعيد الاعتبار إلى الأدب الفرنسي، فلافونتين كان يبدو بلا طعم بالنسبة للأجانب، وراسين كان كتابًا مغلقًا ولغته مفرطة في الأناقة، ولا تمتلك حيوية بالنسبة لغير الفرنسيّين، وفيكتور هوجو نفسه لم يكن معروفًا بالكاد في الخارج إلا برواياته، على حدّ قول بول فاليري.
هكذا إذًا جاء بودلير (1821-1867) ليقلب المشهد، فحيث كان الرومانتيكيون قد أنشدوا مدائح للرب سابقًا، قدّم ابتهالات للشيطان، وإذا كانوا قد أشادوا بالحب الطاهر فقد عكف على تمجيد الشهوة الجسدية، وإذا كانوا قد قدموا زهورًا جميلة للحياة، فقد اقترح عفونة الجثث. لقد سعى باستمرار إلى استنباط الجمال من الشرّ، ذلك أن الجميع قبله سعى إلى استنباطه من الجميل فقط.
الذات لدى بودلير ليست فردية أو تعبيرية عن الشاعر، بل عامة تشرح ذلك العصر المتخبّط في ظواهر المدن الحديثة، التي فاجأته دون استعداد أو تأهيل، ودون قدرة على مواجهتها أو ردّها، ومن هنا حاول الشاعر الفرنسي مساعدة العالم الخارجي في بناء معماره الشعري، واستعادة استقلاليته وموضوعيته التي فتّتها الخيال الرومانتيكي.
قال عن قصيدة النثر إنها "خطرة كالحرية المطلقة". وبالفعل فقد دخلها شاعر الشرّ كما يدخل حطّابٌ مع فأسه غابةً مجهولة، مليئةً بالمهابة والخطر بقدر ما هي فاتنة ومغوية.
دخل بودلير إلى قصيدة النثر كما يدخل حطّابٌ مع فأسه غابةً مجهولة مليئةً بالمهابة والخطر
بقليل من التأمل العميق لمفهوم اللغة الشعرية عند بودلير، نجد أنه قد نجح في تحرير البعد الموسيقي كقرين لاختيار المكان الحضري، كمكان جديد للشعر، واختار الكلمات لتشييد نصّه مستندًا على طاقتها الموسيقية أكثر من قدرتها الدلالية، الأمر الذي جعل من لغته لغة توصيفية عذبة يغذيها الإيقاع والتناغم، علاوة على ارتباطها بعمق رؤيوي وحتى بغموض بحيث لا يعود ممكنًا أن ينفصل الصوت فيها عن المعنى.
ثمة خط نغميّ صافٍ وجرس شعري راسخ بصورة خالصة، تمايزه عن الأسلوب النثري الذي كان واضحًا في الشعر الفرنسي بعد منتصف القرن السابع عشر، ببساطةٍ يمكننا القول أنه استطاع إعادة الشعر إلى جوهره.
من "أزهار الشر"، إلى "سأم باريس" الذي نُشِرَ بعد موته، كانت حصيلة شعرية ذلك الفرنسي، إضافة إلى قصائد هنا وهناك، وبعض القصائد المنظومة المتعلّقة برحلته إلى بلجيكا، والتي أُدرجت لاحقًا جميعها في كتاب سُمّي بالأعمال الكاملة التي صدرت ترجمتها العربية عن "دار الشروق" في القاهرة في 921 صفحة، تتصدرها ثلاث مقدمات، كتب إحداها الشاعر بول فاليري، إضافة إلى ألبوم صور يعرض مراحل مختلفة من حياة بودلير، إلى جانب وثائق مهمة عديدة، منها غلاف الطبعة الأولى من أزهار الشر عليها تصحيحات بخط بودلير.