تساؤلات مفتوحة على رحابةِ الحلم
خرجتُ من المنزلِ على غير هدىً، كانت السَّماءُ تمطرُ مطراً ناعماً، الجوُّ كانَ نديَّاً ما بينَ الشِّتاءِ ونسائم الرَّبيع على الأبوابِ. سرْتُ في أزقّةِ الحيِّ الَّذي أعيشُ فيه وأنا أسوحُ في خيالي الّذي جرفني إلى مرافئ الذَّاكرة البعيدة، حيثُ كركراتُ الطُّفولةِ تزدادُ سطوعاً. تهاطلتْ عليّ التَّساؤلاتُ كما تهاطلَتْ رذاذاتُ المطرِ النّاعمِ. تحاصرُني أسئلة لا تخطرُ على بال. سرّني مشاهدة العصافير تزقزقُ فوقَ أغصانِ شجرة باسقة، تذكّرتُ عصافير الدُّوري هناك، خائفة من الأطفالِ والكبارِ، مرعوبةٌ من "نقّيفاتهم" الّتي تتربّض بهم من كلِّ الأطرافِ، أمّا عصافيرُ هذهِ البلاد لها حرّيتها وحقوقها وقوانين تحمي أجنحتها الغضّة من هولِ الانكسارِ! الحياةُ لغزٌ عميقُ الغورِ لا يمكنُ أن نسبرَ أغوارَهُ السَّحيقة. حلَّقتُ في فضاءاتِ الخيالِ، والكثيرِ من الذّكرياتِ تتدلدلُ في رحابِ الذّاكرة، أحنُّ إليها مثلما يحنُّ الأطفالُ إلى أحضانِ أمّهاتهم، ورحتُ أموجُ شوقاً إلى دنيا الطُّفولةِ واليفاعةِ والشَّباب بكلِّ ألعابها وجمالها وحبورها. لا أصدِّقُ نفسي أنّني عشتُ كلّ هذه السِّنين هناك. كيفَ عبرتُ هذه العقودُ من الزَّمنِ وأنا غريبٌ عن نفسي، وغريبٌ عن الحياةِ، وغريبٌ عن كلِّ ما يحيطُ بي؟ هل أنا ذلك الطّفل المرفرف في داخلي؟ لا أستطيعُ الإجابة عن هكذا أسئلة، وتفاجئني حياتي البهيجة والحزينة معاً. نحنُ البشرُ أشبه ما نكونُ حلماً متطايراً من شهقةِ غيمةٍ. لا نفهمُ ذواتنا في الكثيرِ من الأحيان، كيف تحمَّلنا كل تلكَ الضّغوط الّتي كانت جاثمة فوقَ صدورِنا؟ لم أعُد بعدَ اليوم أتحمَّلُ أي خطأ جسيم يرتكبه أي إنسان في حقّي. أستعرضُ حياتي، كم كنتُ مهمّشاً ومهشَّماً، ضحيةُ النّفاقِ والغدرِ والقبحِ السّائدِ هناك والّذي لحقَ بنا في دنيا الاغتراب. عشتُ على هامشِ الحياةِ في الكثيرِ من مساراتِ الحياةِ، مطوَّقاً بالشّوكِ، سأحرقُ الأشواكَ الّتي كانت تطوّقني في بعضِ الأحيانِ. لا تعجبُني ثلاثةُ أرباع الفكر السّائد هناك، ولا العلاقات السّائدة هناك. علاقاتٌ مشنفرةٌ بالعذابِ والنّصبِ والاحتيالِ والخداعِ. كأنّنا خارج الزّمن، خارج الحضارة وخارج الفكر الإنساني. كم شعرتُ بالأسى والحزنِ والخذلانِ عندما حُرِمْتُ من متابعةِ دراساتي الجامعيّة في قسمِ الأدبِ الانكليزي. أبسط طموحات الحياة لا تتحقَّقُ هناك، والأغرب ممّا كان أنّني كنتُ قادراً بكلِّ بساطةٍ متابعة دراساتي في الأدب الانكيزي هنا في عالم الاغتراب، لكنِّي لم أفعل، عجيب! كيف تحمَّلتُ أمّيين يتحكَّمون بي؟ بدتْ لي رحلةُ العمرِ مثلَ خرافةٍ سخيفةٍ للغايةِ، أستعرضُ أمامي الكثير من الأمّيين وأنصافِ الأمِّيين، أراهم قدّ حقَّقوا نجاحاً واستمتاعاً في الحياةِ أكثرَ منّي. لو عادَ الزّمن إلى الوراء، سأحذف نسبة عالية من هؤلاء من مسار حياتي وعلاقاتي ابتداءً من أقرب المقرّبين ومروراً بكلِّ مَن مرَّ في حياتي. الحياةُ كذبةٌ كبيرة، خدعةٌ كبيرة، اخفاقاتٌ لا تحصى، وخذلانٌ من أغلبِ الجهات. أكثر ما يعجبُني في شخصيَّتي، أنّني حوَّلتُ كل احباطاتي وفشلي وآهاتي وأحزاني وهزائمي وقرفي من الكثير ممَّا صادفته في الحياة، إلى نصوصٍ وأعمالٍ إبداعيّة، هي أفضل مليار مرّة ممّن انتصروا علي، ولم ينتصر عليّ أحدٌ، حتّى انتصاراتهم علي على أكثر من جانب هي انتصارات وهميّة عقيمة وسقيمة ومنافقة ولا قيمة لها، كلّها تصبُّ في سراديبِ الجحيمِ والغبارِ والرّمادِ، ولا تساوي جملةً شعريّة أستوحيها من تلك التّرهات!
تهدهدُني الرّذاذاتُ النَّاعمةُ المتهاطلةُ علي. هل هذهِ الرّذاذاتُ المتهاطلةُ عليّ كانتْ يوماً ما أطفالاً مستنبتة في الحياةِ، فصعدتْ على مرِّ الأزمانِ إلى رحابةِ السَّماءِ، وبدأتْ تحنُّ إلى الأرضِ وتهاطلَتْ بكلِّ شغفٍ على وجهِ الدُّنيا كي تسقي عطشَ الأطفالِ الّذين ترعرعوا في خضمِّ الأسى والأنين؟! تحرِّضُني تهاطلُ رذاذاتِ المطرِ، بتهاطلِ الأسئلةِ، كم أشعرُ برغبةٍ عميقةٍ في تقبُّلِ الأسئلةِ والتّفاعلِ العميقِ في الإجابةِ عنها.
أمسكْتُ عودَي ورحتُ أدندنُ بعض الأغاني، وبدأتُ أغنِّي بشغفٍ غير مسبوق، وغمرَني الحنينُ إلى بلدتِي الَّتي ترعرعْتُ فيها أكثر من ثلاثةِ عقودٍ من الزَّمن، متخيِّلاً هذه المرّة ذكرياتِي الجميلة وأنا بينَ أحضانِ الأحبّة. تمرُّ الأيامُ والشُّهورُ والسّنينَ سريعةً. تبدو لي الحياةُ ومضةً خاطفةً، رحلة خرافيّة حلميّة قصيرة. الموسيقى صديقة روحي وبوحي، سوفَ أرمِّم كل ما تخلخلَ في كياني، منطلقاً من دندناتِ الموسيقى، وتوهُّجاتِ الحرفِ واللَّونِ، كي أبقى على عناقٍ معَ هذا المثلّثِ المقدَّسِ، وأعيشُ بقيةَ عمري كإمبراطور يحلِّقُ عبر حرفِهِ في فضاءِ الكونِ، ويناغي عبر ألوانِهِ وميضَ النُّجومِ، ويعزفُ أغانيهِ المضمّخة بمذاقِ الحنينِ على إيقاعِ رذاذاتِ المطرِ!
ستوكهولم: 4. 8. 2021
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم