ملاحقة بَصًرية لخزائن بلورات الضوء قراءة لمرئيات استثنائية
• خليل الطيار
الجزء الأول
مهاد لروح الضوء
يعتبر "الضوء" روح الفوتوغرافيا ودفقها، ومن الأضواء تُخلَق صفات الصورة، وتنشأ هيئتها وتتحقق ماديتها، وتُبتكر وتُصنع أجناسها. وتشكل ثقافة ودربة "المصور" مرتكزا أساسيا لإنضاج قدراته لفهم فلسفة الضوء وإدراك ماهيته، والتكيف لتوظيف أطيافه، والتعامل مع تدرجاته، والسيطرة على مختلف مصادره الطبيعية والصناعية، واستثمار ما ينعكس من بلوراته على مختلف أوجه السطوح.
هذا التجلي مع روح "الضوء" وفهم طبيعة التعامل مع ما تنتجه خزائن فيزيائيته من تدرجات وخامات لونية، توفر تشكلاتها فرصة لإنتاج واقعات ضوئية نادرة، تمنح المصورين إمكانية القبض عليها سواء كانت ظاهرة بصورة مباشرة أو منسابة بين ثنايا الأمكنة، أو الإمساك بها متسللة وهي تخترق مناطق العتمة، مانحة المكان هويته، وتؤسس وجودا للون الأسود (الظلام)، المعدوم فيزيائيا، والذي لا يمكن الاستدلال عليه، أو تسميته إلا بوجود الضوء قباله. ليحقق حضورهما معا ثنائيات متقابلة، وتشكلات مكانية متضادة تنتج منها مساحات بَصَرِيَّة استثنائية. لا يتعامل معها المصورون بوظيفة تسجيلية، بل يعمدون على تسخيرها، لإنتاج صور تمنح شيئيتها بعدا زمانيا ومكانيا جديدين، عبر إنتاج مرئيات قادرة على الاحتفاظ بسرد فاعل داخل متونها.
هذه المعادلة الفيزيولوجية في خزائن الأضواء المتشكلة من ثنائيات (الأشياء وظلالها) ومناطق (النور والعتمة) وتقابلات (الأبيض والأسود)، لطالما اشتغل عليها المصورون بهوس مفرط داخل مساحات الواقع، ويتقصدون تصيدها لإنتاج صور بمناخات غير تقليدية تظهر فيها مهاراتهم الحرفية، لصناعة تشكل بَصَرِي تهيمن فيه جماليات التحكم بنتوءات الأضواء النادرة، والشحيحة، وأحيانا يستثمرون مساراتها وهي تقابل عدساتهم لصناعة صور (سلويت). لكن قليلا من هذه الأعمال التي يتمكن فيها منتجوها مغادرة التقليعات الضوئية النمطية، ويعكفون على متابعة مصادر الأضواء النادرة لإنتاج "فوتوغرافيات" مدروسة بقصدية جمالية، تسعى لتوظيف فيزيائية الضوء داخل مساحات متونها باشتغالات نوعية، تؤسس لمرئيات بَصَرِيَّة متميزة.
وعبر عدة أجزاء، سَنقدم على ملاحقة عدد من تجارب مصورينا (المرئيين الفاعلين) وهم كثر في المشهد الفوتوغرافي العراقي، الذين يتعقبون بإبداعاتهم المستمرة مناخات ضوئية غير تقليدية، تحققت فيها مقومات النجاح للقبض على بلورات منسابة في أمكنة وحالات استثنائية. وتم توظيفها بآثار بَصَرِيَّة عالية الجودة. وهي أعمال اخترناها كنموذج لتدليل على إمكانية المصور "المرئي" في توظيف جذاذات الضوء النادرة في تشكلاتها لصناعة مرئيات تؤسس لسرديات بَصَرِيَّة ذات أثر جمالي نوعي، تركت علاماتها بقوة في مشهدنا الفوتوغرافي، مبتعدة عن السطحيات اَلْبَصَرِيَّة السائدة. وفي هذا الجزء سنترك قراءة لثلاث مرئيات متميزة في إنتاج جمالياتها.
(1)
بياض الظلام بانزياح الضوء!
جذاذة ضوء
*للمصور لكريم الذهبي
يشتغل "كريم الذهبي" على مختلف خزائن الأضواء المتعددة المصادر، سواء التي يعثر عليها مكشوفة في الطبيعة، أو تلك التي يلاقي تشكلاتها في الشارع وحقق فيها منجزاً بصرياً مُثِيرًا. لكنه وفي معترك اشتغالاته النوعية، لطالما عودنا على قدرة إنتاجه لوحات بصرية استثنائية خارج سياقات مصادر أضاءتها الطبيعية، وهي مرئيات لا يدع المجال فيها لأرتواء عدسته من كميات الضوء المكشوف، ويوقف عملية نهمها المفرط، ويروضها لتتمكن من السيطرة على إشباع غريزتها في تلقي مصادر الأضواء بأقل كمية ممكنة، لتحقق له معادلة تجسيد الفكرة باختزال الضوء.
فهو لا يجد ضرورة لتكشف له الأضواء واقعات شيئياته بصورة مباشرة، بل يعمل على قبضها بأضواء فقيرة في مواردها وقليلة في نسبها. تاركاً لغنى تصوراته المرئية تعويض نقصها داخل مشهده اَلْبَصَرِيّ، وتسد فراغ غيابه ليحقق مرئيات غنية الأثر بأبسط موارد الضوء، وأصعبها تسللا لعدسته. كما تحقق له ذلك في واحدة من أكثر أعماله تمييزا على مستوى توظيف الفيض الضوئي. فقد لاحق بعدسته عربة تربع الحوذي على سطحها وراح يجرهما "حمار" بالكاد تمكنت جذاذات الضوء رسم معالم جسده بصعوبة لتتضح أذناه المتوثبتان معلنة حيرة قبول مهمة الغوص في عتمة المجهول! وعبر بخل ضوئي واضح بالكاد يمكن بيان زاوية استدارة وجه الحوذي وهو يعلن استغرابا لهذه الملاحقة المتوجهة نحوه!
معادلة ضوئية صعبة، خالف فيها "كريم الذهبي" قواعد الاستدلال بالضوء الطبيعي لواقعته البسيطة الأثر، لينقذها من سطحيتها، وجازف بتحد كبير ليقدم سحر بصري متفرد ساعده على تحويل التقاطاته من حالتها الواقعية ليقبض على فاعليتها المرئية. فراح يعتمد على بسط سلطة الظلام وهيمنته في مشهده، ليمسك بخيوط جذاذات الأضواء البيضاء ترسمَ له مخرجاتها خطوط خارجية لمصفوفة بَصَرِيَّة ترجم منطوقها بقاعدة "السلويت"!
ولا أعتقد كان سيحقق أثرا جماليا ذا قيمة، لو نفذ هذا المشهد بأضواء مفتوحة، وأظنها ستكون حالة توثيقية ضعيفة تظهر لنا رجلا يعتلي ظهر عربة يجرها حمار! لكن " كريم الذهبي" بحرفيته العالية تعمد الغلو في معالجته الفنية على تعظيم حجم السواد في مشهده لإزاحة الضوء منه، ليعتمد فقط على الخطوط الخارجية outline وأراد بذلك أن يمنحنا اعترافا بقدرة كتابة المعاني الكبيرة لسرديته بأقل الحروف الضوئية. ليعكس من خلال ذلك محتوى فكرته المضمرة، وهي تخبرنا أن السعي نحو منتهى أعمالنا وتحقيق أهداف الحصول على لقمتها الشريفة، رغم مجهول أفقها، فهي لا تمنع الإقدام والمضي بالحركة نحوها، ولا ينبغي التوقف عنها والالتفات إلى الوراء! وان كانت ميسرات القدرة بأقل تكاليف أضواء الطرق المتاحة، لكنها ستكون كافية لبيان حضورنا في الحياة! ورغم هيمنة السواد في مرئيته، إلا ان"كريم الذهبي" تمكن من إظهار عربته تسير بقوة حمارها المتوثب للحركة، وترك انطباعا لامتلاك حوذيها إرادة الاستمرار بتسليط الضوء على مسك لجامه بقوة، دون أن يكترث لحجم العتمة المحيط به، وراح "ينظر إلى الوراء بغضب" كما هي مقولة " ارزبون " ليعلن قابلية الاقتحام والولوج لكسر الأزمنة المظلمة!
جذاذة ضوئية نادرة الحصول تحكم "الذهبي" بتركيب بلوراتها بحرفية عالية مكنته من صناعة أثر بَصَرِي فاعل وسجل أثرها بخامة الظلام ليذكرنا بذلك الوجع الذي استحضره السياب في قصيدة غريب على الخليج...
"الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
حتى الظلام – هناك أجمل، فهو يحتضن العراق"
(2)
فرص الولوج لمساحة العتمة
ثنائية المقود والقيادة
*للمصور "رسول بابل"
ثاني هذه المحطات توقفنا فيها عند عمل منتج "مرئيا" بحرفية عالية، قبض فيه المصور المبدع "رسول بابل" على خامة ضوئية نادرة مكنته على إنشاء علاقة جمالية من تقابلات بَصَرِيَّة داخل كادره، وساهمت زاويته بترتيب متضاداتها لكتابة نص "مرئي" متكامل العناصر.
"رسول بابل" أراد أن يقودنا منذ البداية إلى قيمة خطاب نصه اَلمثْرِيّ بَصَرِيًّا، من خلال اختيار زاوية حرجة، افتتح بها مشهده بالقبض على دراجة هوائية، ترك لجسدها هيمنة على مساحة كادره ليتمكن من إيجاد أثر واضح لحركة مقودها، الذي كسر قاعدة متطلبات السير الطبيعي. فالجسد يميل مستعد للحركة، بينما راح المقود يخالف الاتجاه، في أول مؤشر لرفض حالة ابتعاد الرجل عنه وهو يغوص في لجة العتمة مصطحبا أحماله راجلا! هذه النفرة بين ثنائية العجلة، كوسيلة لتبسيط التنقل، وبين الخطو بالإقدام، أطفأ رسول بابل غرابتها، عندما ترك علامة دالة لمصباح متوهج وسط هذه الثنائية يعلن وجوده كبديل قوي لهدي الخطو في بوابات العتمة. وصار مصدرا مرشداً أمام رحلة الرجل، وهو يبتعد عن العجلة مسترشدا بضوء المصباح، يتقفى أثره في الوصول لوجهته.
هذه الثنائية قابلتها ثنائية أخرى تمثلت بترك "رسول بَابِل" أثرا لفعل الضلال على الأرض. فغياب العجلة الثانية خارج الصورة أوجد لها حضورا شاخصا تمثل بظل العجلة الأولى لتبدو لنا غير منقوصة الأطراف تعلن استعدادها للسير، رغم أن استدارة حركة مقود (القيادة) قد ترك علامة لغياب رغبة التوجه للإمام! وبدت تخالف رغبة جسد الدراجة لحمل (الفرد) لاقتحام الأنفاق المجهولة!
"رسول بابل" يصر دائما على المسك بجذاذات الضوء حيث ما تفاعلت مع مكانها، وهي ترسم قيمة بَصَرِيَّة يلاحق تشكلاتها "مرئيا" ليكتب متون سردياته اَلْبَصَرِيَّة بإبهار وحرفة عالية، كما تحقق في هذا العمل النادر في مصادر إضاءته. ورغم اشتغاله على ثنائية الظلال والأضواء في مشهده، لكن ربما كانت عناصر إفصاح مناخها قد تتماسك وتقوى تأثيراتها، لو حققها بالأسود والأبيض، لكنه أصر أن يترك هذه المعادلة بخامتها اللونية الصريحة، ليدلل على أن الألوان لن تكون مؤشرَ ضعفِ في الصورة التي تَبنى متونها بمتضادات ثنائية، بل تصبح معيارا نافعا بتأثير فسجلتها على تقوية سَرْدِيَّتهَا. وهو ما تحققت معادلته جماليا بنجاح.
(3)
الوقوف على أوراق الضوء!
*للمصور: عبد العالي الأشتري
العمل الثالث الذي توقفنا عنده للمصور "عبد العالي الأشتري" الذي طالما تركت أعماله الانطباعية واقعيات تغترب عن مناخاتها الطبيعية، لتجلس في خانة الواقعية السحرية. ورغم أنه مهووس بقيمة "المكان" ويفتش دائما عن مآثر بَصَرِيَّة يولد من خلالها هويات جديدة "لشيئياتها" إلا أنه، وهو الراصد "الواقعي" المتميز، لا يترك فرصة ملاحقة بلورات الضوء في تشكلاتها النادرة، كما وجدنا لها علامات متفردة في منجزه، لكن توقفنا هنا عند عمل استثنائي في تشكل بلوراته الضوئية، وعمل على كتابة مصفوفته المرئية بأوراق الضوء!
"الأشتري" يمتاز بقدرة إعادة ترتيب معادلات الظل والضوء في مشهده. فهو لا يتأثر بتشكيلاتها العفوية، بل يسعى لإيجاد علاقات متكافئة لدلالتها، ليبني معادلته البَصًرية الافتراضية برؤيته الخاصة. فهو يصر دائما ليجد للإنسان أثراً يمنحه وجودا فاعلا، رغم انحسار كمية الأضواء المتوفرة في أمكنة حياته! ولا يدعه يضعف أمام مساحات العتمة المحيطة به، بل يجعل الأضواء، وان بدت قليلة تساعد على تنمية فاعليته داخل مشاهد سرديًاته المرئية.
ولو حللنا تركيب اقيام مساحات العتمة المسلطة على مشهده. نجدها قد اجتاحت حدود المكان لتنفذ إلى ذاكرة الزمان، الذي استوقف فيه إنسانه وسط عالم مليء بالمساحات السوداء، تدليلا لحجم العذابات والتحديات التي يعيشها. لكنه يصر على مواصلة الكفاح لمحاولة العثور على فسح النور المعبرة عن ديمومة الحياة، والجاذبة للخير والعطاء. ويسعى للوقوف عندها لإظهار وجوده. وتعمد "الأشتري" على تكثيف شدة احتفاظ إنسانه بردائه الأبيض الناصع، ليؤشر لتفاؤله وهو يقف على أوراق أنواره البيضاء!
هذه المعادلة أجدها في مرئية "الأشتري" قد قاربت بين ثنائية المكان والزمان لتعبر عن أثرها. واستطاع أن ينجح في كتابة معادلة سرديتَها بحرص جمالي مبهر، وهو يحافظ على وحدات لوحته بإيقاع هادئ، اسمعنا فيها لحنا حزينًا لمحنة إنسانه المحصور في هذا التركيب النفسي القهري، دون أن يعدم وسيلة تطلعه لفسحة النور. فترك مناطق الأضواء تشكل أوراقا بيضاء متسلسلة بإيقاع متصاعد نحو الأعلى. وجاءت منسجمة مع لبأس إنسانه وهو يتحرك عليها متنقلا في الوسط والعمق، ليستمد من أضوائها طاقة شحن لحياة أفضل، تزيده قدرة للتنقل بخطوات واثقة، رغم هول مساحة الظلمة المحيطة به!
*******،،،،*******
خلاصة الملاحقة
في هذه المرئيات الثلاث التقت مشتركات "الذهبي والبابلي والأشتري" عند فكرة تحفيز واستنهاض قدرة الإنسان على صنع تحولاته الزمانية والمكانية، وإمكانية الخروج من حصاراتها. ولم يكتفوا فنيا بما فرضته التشكلات الطبيعية لمصادر الأضواء المتاحة في مساحات واقعيات نصوصهم، بل أصروا متقصدين جماليا، على إعادة ترتيب بلوراتها الاستثنائية، وتوظيف النادر والمتيسر من جذاذاتها لصناعة جمل بَصَرِيَّة، نجحت بامتياز لتحقيق مرئيات تركت أثرا بارزا في بانوراما المشهد الفوتوغرافي.