ابداعيه (في ادب)
Romanticism - Romantisme
الإبداعية في الأدب
يرى بعض النقاد العرب أنه يحسن أن نترجم لفظ romanesque في الفرنسية وromantic في الإنكليزية و romantisch في الألمانية، بكلمة الإبداعي، نسبة إلى الإبداع، في حين أن مدلول هذا اللفظ لايفضي في هذه اللغات إلى معنى الإبداع وحده. بيد أنه من المناسب أن نتكئ على مصطلح «الإبداعية» romantisme لشيوعه وألفة الأقلام له، علماً بأن بعضهم يؤثرون مصطلح الابتداعية على الإبداعية.
الإبداعية في الأدب
إن مصطلح romantisme مشتق، في الأساس من لفظ roman وكان تعبير romanesque يعني قديماً ما يُروى من قصص، باللغة المحكية الشعبية، المواكبة للغة اللاتينية، لغة الصفوة النبيلة العلمية، ثم ضاقت رقعة دلالته وأضحت مقصورة، منذ القرن الرابع عشر، على سير البطولة المروية شعراً ثم نثراً، غير أنه ظل مجهولاً غائباً عن المعاجم الأوربية كلها ولئن عرضت الأكاديمية الفرنسية له عام 1798، فقد اجتزأت بإيراده من دون أن تجلوه على نحو دقيق، ثم ظفر بمزيد من الدلالة الموضحة حين أورد الناقد الألماني فريدريك فون شليغل FredericVonSchlegelمصطلح «الإبداعي» romantisch أي منهج يرفض الاتباعية ويناقضها، ويتراءى تياراً جديداً يستمد قوته من القومية. ومن هنا يمكن تفسير الدور المهم الذي نهضت به الإبداعية في ألمانية، ولدى أي بلد يتشوف إلى الوحدة - ولاسيما في إيطالية - إذ كان تعبير romanticismo يعني صفة الشعب الطامح إلى الوحدة والتحرر من النير النمسوي، ومن تعبير «الإبداعي» romanesque تحدر مصطلح «الإبداعية» على النحو الذي يرد فيما بعد.
أما تعريف «الإبداعية» فيبدو صعباً، ملتوياً، عصيّاً على التحديد. فقد جاءت الإبداعية خصماً مخالفاً للاتباعية، كما لو أنها فوضى تواجه نظاماً واضحاً محدداً، ويرى دي بوا DeBois أن مصطلح الإبداعية، هو تعبير يلهج به الناس من دون أن يتاح لشخصين تكوين فكرة واحدة عنه. «إننا نشعر بالإبداعية - كما يؤكد سباستيان مرسييه SébastienMercier ولكن ليس في ميسورنا تحديدها وتعريفها على نحو واضح، فلايمكن إذن أن تحبس في قفص أي تعريف». وقد رأى الناقد الفرنسي غايتان بيكون GaëtanPicon أن من الممكن تعريف الإبداعية وتحديدها بسماتها وملامحها الأكثر تناقضاً فيما بينها إذ من الميسور أن تُحدَّد الإبداعية برمزها الميتافيزيقي كما تحدد بعفويتها الخالية من أي فكرة مبطنة وبهيمنة «الأنا» lemoi، كما بذوبان هذه الأنا ضمن سمو ديني أو اجتماعي، بذاتها النفسانية الصافية كما بمذاقها للشيء الصلب المتماسك وبحميميتها كما ببرقشتها الباهرة، وبمعاصرتها كما بانكفائها إلى الماضي، وبجرّها الإنسان إلى أرض دنياه كما بحرصها على انسلاخ روحه عن أرضه. ويلخص بيكون ذلك كله بقوله: «إن الإبداعية هي المجلى الفني للأديب الذي يستشعر فجأة أنه يحيا متعجلاً نافد الصبر ملتزماً العيش في عالم يدمر كل هيمنة تقليدية، حافزاً إياه على أن يعمل من دونها»، ومن قبل رأى فكتور هوغو VictorHugo [ر]: «أن الإبداعية هي أشبه ببستان من الشعر، من دون أية فاكهة محرمة، لأنها الفن الذي يسمح بكل شيء».
نشأة الإبداعية
يمكن القول إن الحركة الإبداعية قد انطلقت أول ما انطلقت مع استدارة القرن التاسع عشر في ألمانية وإنكلترة قبل أن تنطلق في فرنسة وإيطالية حيث تأخرت إلى العقدين الثاني والثالث منه. ويعود الفضل في نشأتها إلى رواد مهدوا لها من مثل كنت، وغوته، وشيلر، وإلى دعاة مفوهين من أمثال الأخوين شليغل، ونوفاليس، وشلايرماخر الذين أصبحت ألمانية بفضلهم مركزاً لإشعاع الفكر الأدبي بعد أن كانت مجرد متلق سلبي في عهد الاتباعية الجديـدة [ر]. وربما كانت إنكلترة أول متلق لهذا الإشعاع الألماني الذي تلقفه كل من وردزورث Wordsworth وكولريدج Coleridge الذي أغناها بقراءة معمقة للتراث الأفلاطوني وما لبث هذا المد أن وصل فرنسة التي ظلت الاتباعية مهيمنة فيها أكثر من قرنين، مما جعل تفجر الإبداعية فيها مقروناً بالتوهج والعنف، وقد ساعد على تفجيرها، مدُّ الثورة الفرنسية ثم انسياح الملحمة البونابرتية التي طبعت أوربة بميسمها في مدى عشرين عاماً، وعلى الرغم من شعور الكراهية لعهد الإرهاب الذي خيم على الثورة بظله البغيض، فإن مبادئها ظلت ترفد الخيال وتمده بدمها الحار المتدفق في شرايين الأدب، محدثة صدعاً عميقاً في كيان الاتباعية، حتى لقد قال لودفيغ فيته LudovicVitet: إن الذوق الأدبي في فرنسة ينتظر أيضاً يومه الرابع عشر من تموز. بيد أنه لابد من التنويه بأن إرهاصات ممهدة للإبداعية سبقت ظهورها حركة ذات منهج واضح، وتجلت هذه الإرهاصات في مؤلفات تهيمن بين سطورها روح الإبداعية وبعض ملامحها المتميزة، ولعل أهم هذه المؤلفات ما كان أزجاه جان جاك روسو JeanJacquesRousseau في روايته «هلوييز الجديدة» LanouvelleHéloïse و«الاعترافات» Lesconfessions، وقد بسط فيهما الموضوعات الرئيسة التي تزهو بها الإبداعية، في تصويره لبدوات العاطفة ومفاتن الطبيعة، وما أزجاه برناردان دي سان بيير BernardindeStPierre [ر]، في روايته «بول وفيرجيني» PauletVirginie التي جلا فيها تيمة theme الاغترابية exotisme وأخيراً ما كان قد بسطه شاتوبريان Chateaubriand في كتابه «عبقرية المسيحية» GénieduChristianisme من تيمات روحية وعاطفية تسخو بها الإبداعية.
ويمكن أن يعد ديوان «تأملات شعرية» Méditationspoétiques للكاتب لامرتين Lamartineمنبلجاً لفجر الإبداعية الفرنسية. وقد ساوق انطلاقها آنذاك، دعوة مُلِحَّة إلى الاطلاع على الآثار الأدبية الرفيعة في أوربة - ولاسيما في إنكلترة وألمانية اللتين تقدمتا فرنسة في تبني الإبداعية وقدمتا من الآثار الملهمة الشعرية والنثرية ما رفد الإبداعية الفرنسية بزاد شهي ومنهل عذب، متحت منه وتأثرت به لتتضوأ نجومها المتلامحة في سماء الأدب بألق جديد. وكالجداول التي تتجمع لتؤلف نهراً لجياً، فقد ائتلفت حركة مطردة متنامية، داعية إلى الإبداعية، غير أن هذه الحركة انبثقت، في البدء، مشتتة مكونة جزراً مترامية في منفسحها، تباعد السياسة والأهواء ما بين أتباعها، فكان بعضهم يجتمع حول صحيفة «الكونسرفاتور الأدبي» وبعضهم الآخر يضمه صالون «إِتيين دي لوكلوز» ÉtiennedeLecluse وانقسم مريدوها إلى فئتين تنطق بلسان الأولى صحيفة «ربة الشعر الفرنسية» LaMuseFrançaise ذات الاتجاه المعتدل، وتنطق بلسان الثانية صحيفة «الكوكب» Globe ذات الاتجاه التحرري، وبدا فكتور هوغو، كأنه الرئيس الموجه للإبداعية، وإذ إنها ترتكز على المسرح بصورة خاصة، فقد ألفى الإبداعيون أنه من الأجدى لهم أن يفوِّقوا سهام نقدهم إلى معقل الاتباعية التقليدية: المسرح. وكذلك ترادفت مقالات وبيانات شتى وقعها هوغو ودي شامب وسانت بوف، جلوا فيها منطلقات الإبداعية وأسسها، مركزين اهتمامهم على المسرح، ومع ذلك فلم يكن في جعبة الإبداعيين أثر مسرحي، يمكن أن يضاهي بنضجه وكماله مسرحية «السيد» LeCid لكورنّي Corneille [ر] حتى وافى تاريخ 25 شباط 1830، وفيه تصدى هوغو بمسرحيته «هرناني» Hernani لقلعة الاتباعية وقواعدها المعروفة في المسرح، ولاسيما لقاعدة الوحدات الثلاث، وقد وسم تصديه العنيف بمعركة هرناني الناشبة ما بين مرحب منافح عنها، ومهاجم منتقد لها، وقد استلهم هوغو موضوعها الشائق من تاريخ إسبانية، واتسق له أن يستشرف بها ذروة الإبداع والروعة، بما يترقرق فيها من غنائية وماءٍ وطلاوة. وهكذا أضحى عام 1830 منعطفاً مهماً ضمن أبرز اتجاهات الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر وقمة باذخة تماثل - على حد قول لامرتين - قمة جبل شامخ بين منحدرين.
وفيما عدا مسرحية «هرناني» الناجحة، فإن إسهام الإبداعيين، في ميدان المسرح جاء متخلفاً قاصراً عن مطاولة ما أنتجه رواد المسرح الاتباعي الأوائل حتى لقد بدت مسرحية «بورغراف» Burgraves لهوغو باهتة، حائلة اللون، إن وضعت في قَرَنٍ واحد مع هرناني، بيد أن الرواية الإبداعية، أتمت ما قصر عنه المسرح الإبداعي، فقد ترادفت، في القرن التاسع عشر، روايات شتى، تفوق بجودتها الآثار المسرحية الإبداعية، حتى لقد دعي هذا القرن بقرن الرواية، وتأتّى لها أن تغري كثيراً من الشعراء والمسرحيين النابهين ليردوا منهلها، كلامرتين وهوغو ـ وحسب المرء أن يشير إلى رواية «البؤساء» LesMisérablesلهوغو، وحسبها أن تغري الناقد سانت بوف، بأن يدلي أيضاً بدلوه ويغترف بروايته «الشهوة» Voluptéمن خضم الرواية الزاخر. هكذا انفسحت طريق الإبداعية الفرنسية رحبة لاحبة أمام ستاندال Stendhal وفكتور هوغو ولامرتين وألفرد دي موسيه AlfreddeMusset وألفرد دي فيني AlfreddeVigny وجورج صاند GeorgeSand وسانت بوف وغيرهم، يسهم كل منهم في المجال المؤهل له، في ميادين الشعر والمسرح والرواية والنقد.
وتتصف الإبداعية في بقية البلدان الأوربية، ولاسيما في ألمانية وإنكلترة، بأنها لم تلق عنتاً يماثل ما لقيته الإبداعية في فرنسة، ولم تتسم بمثل حدتها، إذ لم يتسق لها، فيما هي تناجز الاتباعية، أن تظفر بمعركة كمعركة «هرناني» وما أثارته من رهج وجلبة، وقد برزت ملامحها العامة، في هذين البلدين، قبل أن تؤتي الإبداعية الفرنسية أكلها وثمارها، ففي ألمانية، هيمن طيفا غوته وشيلر، في البدء، ثم أتى هولدرلين Holderlin [ر] ونوفاليس Novalis [ر] وهاينة Heine [ر] ليغنوا الإبداعية الألمانية ويهبوا لها آفاقاً من غوارب الخيال المجنح، وفيضاً من العاطفة المتدفقة. أما في إنكلترة فقد طغى طيف شكسبير، بمسرحه الخصب المتنوع، المترع بنزوات الأهواء ولهب العواطف، ثم اشرأب من بين أعلام الإبداعية الإنكليزية، وردزورث وكولردج وكيتس Keats، لتنسم العاطفة المرهفة في أشعارهم، وشق والتر سكوت WalterScott طريق الرواية التاريخية النابضة بالصور المعبرة الحية، وترادفت روايات الشقيقات شارلوت وإميلي وآن برونتي Charlotte, EmilyandAnneBrontë شوامخ بين آثار الرواية الإنكليزية الإبداعية بما يترقرق فيها من حساسية وعاطفة.
ولقد كان ثمة فوارق مميزة تتصف بها مظاهر الإبداعية الأوربية، إذ كان ما يفرق ما بين الإبداعيين أكثر مما يجمع ما بينهم، فقد اتصفت علاقات بعضهم ببعض، بطابع الخصومة، ولاسيما في إنكلترة، لهذا بدت الإبداعية الأوربية في مجملها ممثلة بموقفها السلبي الرافض، أكثر مما هي ممثلة بخصائصها الإيجابية، ومع ذلك فقد كان ثمة روابط وموضوعات مشتركة، تأتلف متناغمة، في مثاقفة متبادلة، فارضة نفسها على الأذواق أمداً طويلاً، لتجعل من آثار بعض النابهين من أدباء الإبداعية، مهوى نظر كل من ينشد المتعة الأدبية الخالصة في كل عصر.
منطلقات الإبداعية وملامحها العامة
الحساسية الجديدة واكتشاف الذات: كتب الناقد سينانكور Senancour عام 1804 «إن الأديب الإبداعي قمين، وحده، بأن ينفض الحساسية الجديدة في الأدب» معبراً بهذه الكلمة عما يمكن أن تفصح عنه طبيعة الإبداعية ومنطلقاتها وتوقها إلى إعطاء الخيال حقه من السمو، قبل أن تضحي مدرسة جمالية في الأدب. ذلك أن الإبداعية تستمد قوتها وتسترفد إمكاناتها غير المحدودة من اكتشافها لمفهوم الذات النفسانية Subjectivitéويفسر هذا التصعيد للذات، في