محاكم التفتيش

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • محاكم التفتيش

    محاكم تفتيش

    Inquisition - Inquisition

    محاكم التفتيش

    محاكم التفتيش Inquisition هي تلك المحاكم والهيئات التي أقامتها البابوية بدايات القرن الثالث عشر، ومنحتها سلطات شاملة لمحاربة المعارضين لتعاليم الكنيسة الكاثوليكية الذين اتهموا بالهرطقة والخروج عن الدين القويم، وقد اشتهرت محاكم التفتيش الإسبانية بسبب قسوتها وفظاعتها.
    تصدت الكنيسة المسيحية الباكرة لظاهرة الهرطقة، ولكن بطرق سلمية وبالنقاش والإقناع، غير أنه منذ أن صارت المسيحية الديانة الرسمية للامبراطورية الرومانية في القرن الرابع الميلادي، بدأ الأباطرة يتخذون بدعم من الكنيسة إجراءات قانونية قمعية ضد الهراطقة، استناداً إلى رأي القديس أوغسطين Augustine الذي أجاز معاقبتهم بالسجن والنفي ومصادرة الأموال.
    وفي العصور الوسطى الباكرة كان التحقق من الهرطقة مسؤولية كبار الأساقفة، ولكن مع انتشار الهرطقة في أوربا في القرن الحادي عشر وظهور طائفة «الطاهرين» Cathars في شمالي إيطاليا وجنوبي فرنسا، الذين عرفوا باسم Albigeois، بدأت الكنيسة والدولة اتخاذ إجراءات صارمة ضد الهرطقة فهي برأيها عدوة الجنس البشري، وهكذا اتخذ مجمع لاتران الكنسي الثالث Lateran III برئاسة البابا إسكندر الثالث Alexander III عام 1179 قراراً يشرع ملاحقة الهراطقة، ويمنع المسيحيين من حمايتهم، ويفوّض الأمراء الحاكمين القيام بحملة صليبية ضد أعداء العقيدة الصحيحة ومصادرة أموالهم واستعبادهم.
    كان ملك فرنسا لويس التاسع Louis IX أول من فكر بالحرق عقاباً على الزندقة سنة 1224، وهي عقوبة قاسية ومرعبة، لترد الضالين إلى الطريق القويم، فكان يُرمى بالزنديق مكتوفاً في النيران ليلقى حتفه.
    وقد اعتمد البابا غريغوري التاسع هذه العقوبة عام 1231، وكلّف رهبانية الدومينيكان أولاً ثم الفرنسيسكان تأسيس محاكم تفتيش بابوية لقمع الهرطقة في فرنسا، وعيّن محققاً عاماً لسائر أنحاء المملكة، كما أنشئت محاكم تفتيش في إيطاليا وألمانيا وإسبانيا وبلدان أوربية أخرى، ولم يبق في منأى عن هذه المحاكم سوى إنكلترا والدول الاسكندنافية.
    وفي أواخر العصور الوسطى وجهت محاكم التفتيش اهتمامها لمكافحة السحر والسحرة والمتهمين بالشعوذة، ولكن مع تراجع السلطة البابوية وانحدارها، انتقلت محاكم التفتيش تدريجياً إلى أيدي السلطات المدنية العلمانية، وصارت تستخدم لمقاصد وغايات سياسية، وهكذا تمَّ القضاء على منظمة «فرسان الهيكل» Templiers (1307- 1314) وإعدام المناضلة جان دارك Jeanne d’Arc (1413) والراهب الإيطالي سافونارولا Savonarola (1498)، وكثير غيرهم بمثل تلك التهم.
    أما عن محاكم التفتيش الإسبانية فقد عملت في القرن الثالث عشر في مملكة أراغون Aragon، وتراجع نشاطها بعد القضاء على طائفة «الطاهرين»، ولكنها تجددت في أواخر القرن الخامس عشر بصيغة جديدة ولا يمكن فهمها بمعزل عن تاريخ إسبانيا في تلك المرحلة، لقد كانت وليدة ما سمي بحرب الاسترداد Reconquista وارتبطت بتنصير المسلمين واليهود بصورة قسرية، بعد سقوط آخر الإمارات العربية في الأندلس. وقد قام صراع بين المسيحيين الكاثوليك القدامى والمتنصرين الجدد، الذين عرفوا باسم كونڤرسوس Conversos (أو مرّانوس Marranos)، والذين اتهموا بأنهم يظهرون النصرانية ويتمسكون سراً بمعتقداتهم القديمة، ولكن كان هناك أيضاً دوافع اقتصادية وراء الحملة التي قادتها الأرستقراطية الإقطاعية في مملكتي قشتالة وأراغون، إذ إن كثيراً من المتنصرين الجدد كانت لهم مراكز مرموقة في الكنيسة والدولة وفي عالم المال والأعمال، اضافة إلى تنامي أعدادهم كلما ازداد التنصير القسري.
    وفي عام 1492 قرر الملكان فرديناند Ferdinand وإيزابيلا Isabella طرد اليهود من إسبانيا، فتنصَّر كثير منهم من أجل البقاء في موطنهم، وازداد الوضع تأزماً بين المسيحيين القدامى والجدد. وكانت الأرستقراطية الإقطاعية الإسبانية قد رفعت شعار «نقاء الدين والدم»، الذي اعتمده الملكان الكاثوليكيان منطلقاً لسياستهما الدينية والوطنية، وطلب الملكان من البابوية السماح لهما بإنشاء محاكم تفتيش من أجل اجتثاث العقائد السرية القديمة من المتنصرين الجدد، ومنح البابا سكتوس الرابع Sextus IV عام 1478 الملكين الحق في تشكيل محاكم تفتيش في مقاطعة إشبيليا وفي تعيين المفتشين، وظهرت أولى محاكم التفتيش عام 1481 في الأندلس. ويعزى إلى الملك فرديناند وزوجه الملكة إيزابيلا أبشع عمليات القتل والتنكيل في إسبانيا، فقد عهدا إلى الكاهن توماس دي توركمادا Tomás de Torquemada سيء السمعة برئاسة محاكم التفتيش، التي مارس عليها ديكتاتورية رهيبة اتسمت بقسوتها المفرطة ودمويتها؛ وتذكر المصادر الأوربية أن هذا الكاهن أمر بحرق عشرة آلاف ومئتي شخص بالنار، كما حكم على ستة آلاف وثمانية وأربعين اتهموا بالزندقة (أي التمسك بدينهم الإسلامي أو اليهودي) بالذبح، إضافة إلى تعذيبه - بطرق مختلفة - خمسة وستين ألفاً ومئتين وواحد وسبعين شخصاً حتى الموت، وشنق اثني عشر ألفاً وثلاثمئة وأربعين شخصاً، والحكم على تسعة عشر ألفاً وستين شخصاً بالأشغال الشاقة المؤبدة.
    اتخذت محاكم التفتيش شكلها وتنظيمها النهائي على يد توركمادا، إذ كان يرأسها المفتش العام inquisitor general، رئيس المحكمة العليا (Suprema) التي تشرف على المحاكم الإقليمية، والتي وصل عددها إلى أربع عشرة محكمة في إسبانيا وثلاث في البرتغال واثنتان في الممتلكات الإسبانية في إيطاليا وثلاث محاكم في أمريكا الإسبانية، وكان كل المفتشين يعينون ويسرحون وينالون رواتبهم من قبل التاج الإسباني، وبالتالي فإن الملك كان سيد محاكم التفتيش الإسباني، التي امتد نشاطها ليطال كل الأديان والطوائف غير الكاثوليكية، بما في ذلك البروتستنت وعلماء الدين المتحررين، كما وضعت قوائم بالكتب والمنشورات الممنوعة ولاحقت مفكري عصر النهضة والتنوير.
    وكانت محاكم التفتيش في الأقاليم تتألف من راهبين اثنين، يساعدهما كاتب عدل وسجان ومحققين. فإذا اشتبه بأحد الأشخاص يقبض عليه ويخضع للتحقيق، وإذا استطاع أن يقنعهم ببراءته، أو اعترف بذنبه نجا، شريطة أن يعمل جاسوساً نشطاً لهم، وإلا جعلوه طعمة للنيران، ومن يرفض المثول أمام المحكمة يُهدر دمه، وعلى كل مشتبه أن يكشف كل ما يعرفه عن الزنادقة. وقد وصل الأمر بهذه المحاكم إلى حد محاكمة الموتى، فإذا ثبت لها إدانة الشخص الميت نبشوا قبره واستخرجوا جثته وأحرقوها.
    ومع أن ملوك إسبانيا ضمنوا الحرية الدينية للمسلمين في الأندلس بعد سقوط غرناطة عام 1492، فإن إجراءات الملاحقة والاضطهاد وسياسة الكردينال خمنيس Jiménez المتعصبة دفعتهم إلى الثورة عام 1499، التي قمعت بمنتهى الوحشية وخُيِّر المسلمون بين التنصير أو الطرد من البلاد، فاختارت الغالبية أن تتنصر وتبقى، وقد عرف هؤلاء باسم «المسيحيون الموريون» أو الموريسكوس Moriscos. ولكن كان يُشكّ في أن اعتناقهم الكاثوليكية كان ظاهرياً وسطحياً، وهكذا فإنهم صاروا هدفاً لإرهاب محاكم التفتيش، وحكم على كثيرين بالموت حرقاً والدونية والعبودية. غير أن كل هذه الإجراءات لم تفلح في تحقيق «النقاء الديني والعرقي» المنشود، ولذلك تقرر في السنوات 1609 و1614 طرد الموريسكيين جميعاً لحلّ المشكلة بصورة نهائية. وهكذا فإن محاكم التفتيش الإسبانية كانت أداة للاستبداد السياسي والفكري والتطهير العرقي باسم «الاعتقاد الكاثوليكي القويم».
    وكانت البابوية قد أنشأت منذ عام 1542 محاكم تفتيش رومانية ضمت كبار الكرادلة في «الدائرة المقدسة»، من أجل حماية نقاء المعتقد ضد التعاليم الخاطئة. وقد نشطت هذه المحاكم في القرنين السادس عشر والسابع عشر عندما بلغت الصراعات الدينية أوجها في أوربا وذهب ضحيتها كثيرون، ولعلَّ أهم العلماء والمفكرين والفلاسفة الأوربيين، الذين كانوا من ضحايا محاكم التفتيش جوردانو برونو G.Bruno، الذي حكم عليه بالحرق عام 1600، وغاليليو Galileo، الذي أجبر على التنديد بنظرية كوبرنيكوس «الخاطئة»، وكذلك ديكارت Descartes. أما ضحايا محاكم التفتيش من علماء المسلمين في إسبانيا فأكثر من أن تحصى. بقيت محاكم التفتيش قائمة في فرنسا حتى ألغتها الثورة الفرنسية عام 1789، ثم أعقب ذلك إلغاؤها في إسبانيا عام 1808 على يد جوزيف بونابرت J.Bonaparte، ولكنها أعيدت من جديد بعد تحرر إسبانيا من الاحتلال الفرنسي، واستمرت حتى عام 1834، حيث ألغيت نهائياً.
    شكلت محاكم التفتيش صفحة سوداء في تاريخ أوربا، وخاصة في تاريخ إسبانيا، وكانت أداة للاستبداد السياسي والديني والفكري وقمع الحريات الفردية والعامة.
    مفيد العابد، محمد الزين
يعمل...
X